ارشيف من : 2005-2008
الغوغائية أسلوب جورج بوش في الحكم
زبيغنيو بريجنسكي(*)
قبل ستين عاما استنتج ارنولد توينبي في كتابه الضخم دراسة التاريخ بأن السبب النهائي لانهيار الامبراطوريات كان "اسلوب الحكم الانتحاري" والمحزن بالنسبة لجورج دبليو بوش ان هذا هو مكانه في التاريخ ـ ولكن الاهم بكثير ـ ما ينطوي عليه من مخاطر على مستقبل اميركا، فقد بدت مؤخرا كما لو ان استنتاج توينبي ينطبق على السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة منذ كارثة 11 أيلول/سبتمبر.
رغم وجود بعض التلميحات مؤخرا على ان الادارة ربما بدأت باعادة تقييم اهدافها الا انها حتى الآن ما زالت تتسم الى حد كبير بالشعارات حول تدخلها العسكري غير الناجح في العراق، فخطاب بوش يوم 6 تشرين الاول/اكتوبر كان عودة الى الصياغات الغوغائية التي استخدمها خلال الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2004 لتبرير الحرب التي بدأها هو شخصيا.
تلك الحرب التي دعت لها دائرة ضيقة من صناع القرار لاهداف لم يكشف النقاب عنها بالكامل بعد وتم نشرها بخطاب ديماغوجي اعتمادا على تأكيدات كاذبة وتبين انها اكثر كلفة بكثير في الارواح والاموال مما تصوره الكثيرون.
فقد اسفرت عن انتقادات في جميع انحاء العالم واما في الشرق الاوسط فقد وصمت الولايات المتحدة كخليفة للامبريالية البريطانية وكشريك لـ"اسرائيل" في القمع العسكري للعرب وسواء كان هذا الوصف منصفا ام غير منصف فقد اصبح الاعتقاد السائد في العالم الاسلامي برمته.
ولكن المطلوب حاليا اكثر من مجرد اعادة صياغة للاهداف الاميركية في العراق، فاستمرار التردد من قبل الادارة في مواجهة الخلفية السياسية لخطر الارهاب قد عزز التعاطف الشعبي في اوساط المسلمين مع الارهابيين فمن خداع النفس ان يقال للاميركيين بأن الارهابيين مدفوعين فقط او بشكل رئيس بمصطلح "كراهية الحرية" وان تصرفاتهم مجرد انعكاس لعداء ثقافي متجذر، فاذا كان الامر كذلك فعندئذ ستكون ستوكهولم او ريودي جانيرو عرضة لنفس الخطر الذي يهدد نيويورك لكن بالاضافة الى اهالي نيويورك الضحايا الرئيسيين لهجمات ارهابية خطيرة كان الاستراليون في بالي والاسبانيون في مدريد والاسرائيليون في تل ابيب والمصريون في سيناء والبريطانيون في لندن وهناك خيط سياسي واضح يربط بين هذه الاحداث فالاهداف هم حلفاء اميركا والدول العميلة في التدخل العسكري الاميركي الذي يزداد عمقا في الشرق الاوسط.
الارهابيون لا يولدون وانما يتشكلون بالاحداث والتجارب والانطباعات والكراهيات والخرافات الاثنية والذكريات التاريخية والتزمت الديني والغسيل المتعمد للادمغة، كما يتشكلون بواسطة الصور التي يشاهدونها على شاشات التلفاز وخصوصا من قبل مشاعرهم الساخطة على ما يرونه تشويها وحشيا لكرامة اخوتهم في الدين على يد اجانب مسلحين تسليحا ثقيلا، فهناك كراهية سياسية شديدة لأميركا وبريطانيا و"اسرائيل" تعمل على تجنيد عناصر جديدة في صفوف الارهابيين ليس فقط من الشرق الاوسط ولكن من اماكن بعيدة ايضا مثل اثيوبيا والمغرب وباكستان واندونيسيا وحتى من منطقة الكاريبي.
كما تضررت قدرة أميركا في مواجهة حظر الانتشار النووي، فالمقارنة بين الهجوم على العراق الضعيف عسكريا وتسامح أميركا مع كوريا الشمالية المسلحة نوويا عززت الاعتقاد لدى الايرانيين بأن امنهم لا يمكن ان يتعزز الا بالاسلحة النووية.
كما ان القرار الأميركي الأخير لمساعدة البرنامج النووي للهند النابع الى حد كبير من الرغبة في نيل دعم الهند للحرب في العراق وكقوة لمواجهة الصين جعلت الولايات المتحدة تبدو انتقائية في تشجيعها على نشر الاسلحة النووية.
هذه الازدواجية في المعايير سوف تزيد من تعقيد المساعي لايجاد حل بناء لمشكلة البرنامج النووي لايران.
وكما زاد من تعقيد المعضلات السياسية الأميركية ذلك الانحطاط في المركز الاخلاقي لأميركا في العالم، فالبلاد التي وقفت بصلابة على مدى عقود في معارضة الاضطهاد السياسي والتعذيب والانتهاكات الأخرى لحقوق الانسان قد تعرت باعتبارها قد شرعت ممارسات بالكاد يمكن وصفها بأنها تحترم الكرامة الانسانية.
وما يثير المزيد من الهواجس والشكوك حقيقة سوء المعاملة المخجلة والتعذيب الذي يمارس في غوانتانامو وسجن ابوغريب والتي كشفت ليس من قبل الادارة وانما من قبل وسائل الاعلام الأميركية، وفي ردها على تلك الانتهاكات اكتفت ادارة بوش بمعاقبة عدد قليل من المجرمين في المستويات الدنيا بين المسؤولين ولم تعاقب أيا من كبار صناع القرار المدنيين والعسكريين في وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي الذين شرعوا "التحقيق تحت الضغط المتواصل" (اي التعذيب بعبارة أخرى) ولم يتم اجبار اي منهم على الاستقالة ولا على مواجهة الرأي العام او المحاسبة القضائية، واما معارضة الإدارة لمحكمة الجنايات الدولية فقد خدمت الإدارة الآن بأثر رجعي، وأخيرا مما عقد السياسة الخارجية الأميركية تلك الظواهر الاقتصادية ذات العلاقة بالحرب حيث الانفاق على الدفاع والأمن تصاعد بصورة دراماتيكية، فموازنات وزارة الدفاع ولوزارة الأمن الداخلي أصبحت الآن أكبر من مجموع موازنات معظم دول العالم ومن المرجح ان يتواصل تصاعدها حتى مع تزايد العجز في الموازنة وميزان المدفوعات التجاري مما حول اميركا الدولة المدينة رقم واحد في العالم.
في غضون ذلك، ما زالت التكاليف المباشرة وغير المباشرة للحرب في تزايد مستمر حتى الى مستويات تفوق التكهنات الأولية للحرب من قبل المتفائلين من انصار الحرب، الى درجة حصلت التوقعات الأولية للإدارة محط سخرية، فكل دولار يتم صرفه ليس مستثمرا على الابتكارات العلمية او في التعليم وكلها لها علاقة وثيقة بتفوق أميركا اقتصاديا في المستقبل في مجتمع تسود فيه منافسة اقتصادية شديدة.
يجب ان يفكر المفكرون الأميركيون في مسألة ان الدول المعروفة بحبها للولايات المتحدة اصبحت تنتقد السياسة الأميركية وكنتيجة أصبحت ساحات شاسعة من العالم ـ سواء شرق آسيا او أوروبا او أميركا اللاتينية ـ تسعى بهدوء بحثا عن سبل لتشكيل روابط اقليمية اقل ارتباطا بافكار علاقات عبر الباسفيك او علاقات عبر الاطلسي او التعاون في نصف الكرة الأرضية الغربي مع الولايات المتحدة، فالعزلة الجيوسياسية عن أميركا أصبحت حقيقية دائمة وخطيرة.
هذه الظاهرة سوف تفيد بشكل خاص اعداء أميركا التاريخيين او خصومها المستقبليين.
فالجالسون على قارعة الطريق ويستهزئون بعدم قدرة اميركا هم الروس والصينيون، ومبرر روسيا يكمن في سرورها من رؤية عداء المسلمين يتحول عنها ويتجه نحو اميركا برغم جرائمها في أفغانستان والشيشان وهي تواقة لتأليب اميركا للدخول في حلف معاد للمسلمين واما الصين فلأنها تتبع بصبر استراتيجية معلمها القديم سون تزو الذي علمهم ان افضل وسيلة للانتصار هي بترك خصمك يهزم نفسه.
وبمفهوم حقيقي جدا كان فريق بوش خلال السنوات الأربع الماضية يعمل على تقويض تربع اميركا على عرش العالم من خلال تحويلها لمشكلة قابلة للإدارة واقليمية في جوهرها الى هزيمة دولية وبما ان أميركا قوية وغنية الى درجة فوق عادية فانها تستطيع تحمل ذلك ولكن ذلك لبعض الوقت حتى لو كانت السياسة مصاغة بالمبالغة الخطابية ومتبعة بعمى تاريخي، ولكن خلال هذه العملية من المرجح ان تصبح اميركا معزولة وسط عالم معاد لها وتصبح أكثر عرضة لأعمال ارهابية وتصبح اقل قدرة شيئا فشيئا على ممارسة نفوذ عالمي بناء.
واما استمرار قول بوش "سوف أواصل الحفاظ على المسار" فإنما هي ممارسة قيادة كارثية.
لكن ليس بالضرورة ان تكون كذلك فما زال بالإمكان تصحيح المسار ويمكن ان يبدأ التصحيح قريبا بمبادرة بسيطة ومعقولة من قبل الرئيس بالتحاور مع القيادة الديمقراطية في الكونغرس للانخراط في جهود جادة لتشكيل سياسة خارجية مدعومة من قبل الحزبين من أجل مصلحة الأمة التي يزداد انقسامها اتساعا وعمقا.
ففي ظل سياسة مقرة من قبل الحزبين فإن معيار النجاح سوف ينخفض في العراق وسيتم ايجاد معيار معقول للخروج من العراق، فكلما سارعت أميركا بالمغادرة فإن الأكراد والشيعة والسنة اما ان يتوصلوا الى اتفاق سياسي، او ان تحالفا من بينهم سوف سيستولي على السلطة بالقوة وسياسة خارجية قائمة على قيادة مشتركة من قبل الحزبين وبعد التخلص من مشكلة العراق سيكون أسهل علينا رسم سياسة اقليمية تركز بشكل بناء على ايران وعملية السلام الاسرائيلية ـ الفلسطينية وفي نفس الوقت نعيد الشرعية لدور أميركا العالمي.
(*) المركز الدولي لدراست اميركا والغرب
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018