ارشيف من : 2005-2008
الشهيد الرئيس رفيق الحريري:صناعة المستقبل
كتب الرئيس نبيه بري(*)
من الأعلام القلائل الذين لم يولدوا وفي فمهم ملاعق الذهب، والذين لم يتوارثوا ممالك الرماد ولا الألقاب المملحة، الذين لا نقول أصلهم وفصلهم أبداً بل نروي ما قد حصل.
من القلائل الذين ازدهرت بهم الحدائق والحواكير والكروم والبساتين ياسميناً ووروداً وأزاهير، فانتشر أريجهم عبر كل الحدود وعبر البحار وصاروا اسماً وصفة وخبراً ومبتدأ وفاعلاً.
من القلائل الذين حملوا عن سابق إصرار دمهم وآلامهم وآمالهم على أكفهم، ومشوا على خشب دمارنا المتزعزع وعلى ألواح حروبنا المرتجفة، واقتحم كأنه بحار أسطوري من صيدون الدوامات الهائجة والأمواج المكسوة بالزبد، وأوصل الوطن الى شاطئ الأمان.
من القلائل الذين أصبح حضورهم أفكاراً مزدهرة بالأحلام الناضجة، أفكاراً ترتسم على لوحتها صور لوطن مطهر بالماء ومكتوب على ورق الفضاء، وطن كثير الأديان وكثير الإيمان كتاب، تاريخ للزمان وكتاب مفتوح على الحاضر على الصباحات القادمة من حقول البحر وحقول البر، وعلى الأيام المزدحمة بالمدارس والجامعات والأطفال والأولاد والطلاب وهم يلوحون بكتبهم وعلى غلافهم علم واحد لوطن واحد.
من هؤلاء القلائل، بل في مقدمهم كان الرئيس رفيق الحريري.
في الأزمات كان شجرة متقدمة في العواصف، مورقة وقد انعقد زهرها على عيون الناس المؤمنة بقيامة الوطن.
كان نسيجاً لحرير أبيض يصعد في السواد الكثير كنشيد ساطع، فنقوم لنكتب أوقاتنا وأشجارنا ونعود الى الحياة.
كان جنوبياً حتى العظم، مفتخراً بجنوبيته وبهذه الجهة، التي كتبت هذا التاريخ وهذا الحاضر المقاوم الذي يرتب أبطاله في ساحات المواجهة كما يرتب بحارته في زورق صيدون الأزلي.
كان جنوبياً تليق به صناعة الفرح وصناعة المدن وصناعة المستقبل.
ويوم انتسب الى بيروت كان يثبت أنه يحب العودة الى دارته في صيدا، حيث الأشجار الخضراء التي تحمل ثمر المراكب، ولكنه كان مشغولاً بإعادة صناعة المدينة: بيروت.
كان يعشق بيروت..
بحث في كل الدنيا عن حجارة تليق ببيت بيوتها.
ثم جاء بأشجار من مشاتل الجنوب فزين طرقاتها، وجاء اليها بالثلج من الجبل فغسل وجهها، وجاء لها بالقمح من البقاع فصنع خبزها، وجاء لها بالملح من الشمال ووضعه على مائدتها ثم جلس اليها وكسر الرغيف وأكل، وأصبح بينه وبين بيروت خبز وملح واتحدا، ثم إنه بقي مشغول البال على الجنوب.
أذكر في نيسان عام 1996، في ذلك الشهر سالت دماء كثيرة في المنصوري والنبطية وسحمر، ثم بلغنا أن هناك أعراساً للدم في قانا..
كان رفيق الحريري رقيقاً الى درجة البكاء المر.
من بيروت الى دمشق التي احتشد الى عرينها وزراء خارجية دول القرار، كنا نقف على محاور كل حرف وكلمة ونقطة وفاصلة حتى أنجزنا تفاهم نيسان.
حققنا أول اعتراف دولي بالمقاومة.
وأول سطر مكتوب عن حماية المدنيين.
كان رفيق الحريري فخوراً بأن المقاومة أصبحت قوة قادرة على ردع أي عدوان، وأحس بأن المقاومة تشكل ضمانة للاستثمارات على مساحة الوطن، وبأنه لم يعد بمقدور إسرائيل أن تأتي الى مطارنا وعاصمتنا وأن تعبر كل المناطق وتسرح وتمرح دون عقاب.
في أيار عام 2000 كان رفيق الحريري الجنوبي البيروتي العربي الأشد فرحاً بالانتصار، الأكثر ثقة بالنفس بل الأكثر اعتداداً بالنفس، بسبب المقاومة التي يجب أن تستمر ليس لتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا فحسب بل لردع الأطماع والعدوان وتعزيز الثقة بلبنان.
بعد أقل من سنوات خمس انتبهنا الى أن الحياة ليست خطاً مستقيماً وأن صناعة المقاومة وصناعة المدن وصناعة الأوطان وصناعة التاريخ وصناعة المستقبل تكلف عذاباً كثيراً.
في ذلك اليوم الرابع عشر من شباط عام 2005 استعاد رفيق الحريري جهته الجنوبية ليصير شهيداً مثل كل الجنوبيين دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
هكذا نحن ننتبه، الى أننا مضطرون للافتخار بجهتنا، لأننا نعشق وطننا وعاصمتنا أكثر من الآخرين، ولأننا نتألم أكثر من الآخرين.
وهكذا نحن ننتبه الى أن الشهادة ليست فراقاً بل لقاء، وعهداً بأن نكشف الحقيقة ونحقق العدالة.
(*) رئيس مجلس النواب اللبناني
المصدر: المستقبل - الثلاثاء 14 شباط/فبراير 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018