ارشيف من : 2005-2008
"الانتقاد" تنشر ملفات العملاء الفارين(6):معتقل الموت في الخيام صناعة إسرائيلية لقتل حقوق الإنسان
يمكن تشبيه معتقل الموت في بلدة الخيام باحتلال آخر داخل الاحتلال الميداني الكبير، تماماً مثل الخرق الجوي والاعتداءين البري والبحري، وانتهاك سيادة دولة وأمّة على مرأى من الأمم المتحدة المصابة بالسكتة الكلامية، مع ما يترتّب على ذلك من مضاعفات في المرارة والأسى والهلاك، ناجمة في الدرجة الأولى عن مخالفته للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وانتهاكه الصريح لمبادئ القانون الدولي المتعلّقة بحماية حقوق الإنسان، بعدما تفنّن العدوّ الإسرائيلي وعملاؤه في التسابق لابتكار أساليب عصرية في التعذيب والقهر النفسي، وممارسة أبشع صنوف الوحشية والظلم والاستبداد، وذلك في سبيل تطويع قدرات المقاومين والمجاهدين والأهالي على الصمود والتصدي واسترجاع حقّ ضائع وكرامة مسفوكة.
لم يكن الاعتقال غير قانوني وحسب، بل قفزاً فوق المواثيق الدولية لكونه آتياً من عدوّ محتلّ، وهو سلسلة من اعتداءاته المتكرّرة التي لا يمكن غفرانها.
وبرغم النداءات والصيحات العالية التي أطلقتها غير منظمة ولجنة دولية تُعنى بالإنسان لإقفال هذا المعتقل وإلغائه نهائياً، وأقلّه السماح للجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارة الأسرى والوقوف على أوضاعهم المزرية وأوجاعهم المتمادية ومعاناتهم مع الأمراض المستفحلة في أجسادهم، إلا أنّ "إسرائيل" كعادتها في التعامل مع القرارات الدولية وتعاليها عليها من دون أنْ تُتخذّ بحقّها أيّ إجراءات احترازية أو عقوبات صارمة أو متهاونة، صمّت آذانها خشية افتضاح أعمالها وممارساتها وجرائمها ضد الإنسانية، وخصوصاً أنّ صناعة التعذيب الإسرائيلية ماركة مسجلة غير قابلة للتقليد، وتعرّض صاحبها أو القائم بها للمحاكمة الدولية.. ولم تكتف بهذا التجاهل، بل عمدت عن سابق تصور وتصميم إلى حماية العملاء المسؤولين والمشرفين على فظاعة هذا المعتقل من محقّقين وجلاّدين وسجّانين، ولم تسمح لهم بالعودة إلى لبنان والمثول أمام القضاء اللبناني لنيل أحكام مخفّفة درج على إصدارها، على غير طريقة تعامل الدول مع أبنائها الخونة، وطلبت منهم قبل دحرهم معها في 24 أيار (مايو) من العام 2000، إحراق وإتلاف كلّ المستندات والوثائق والملفّات التي يمكن أنْ تستعمل ضدّ "إسرائيل" في المحافل الدولية، وتفضح مبالغتها القاسية حتّى الموت في معاملة الأسرى، ونقل ما تيسّر لهم حمله على وجه السرعة أو على وجه الخوف إلى فلسطين المحتلة.
وإنْ كان المعتقل فتح أبوابه في العام 1985، إلا أنّ العدوّ أذن على مضض للجنة الدولية للصليب الأحمر ببدء زيارات متقطّعة للأسرى في العام 1995، أي قبل الانسحاب بخمس سنوات، فكان يريها من تحسّنت حاله الصحّية، ومن خفّت أوجاعه وذابت أورامه، وبعض عملاء الزنازين العاملين تحت إمرته ممن لم يتعرّضوا لضربة كفّ ولو تمثيلاً، وأضفى بعض التحسينات المادية الطفيفة من دون أنْ يقارب أو يفكّر في تحسين ظروف الاحتجاز، وأخفى عنها الكثير من المعلومات التي تدين أعماله الوحشية.
كيف أنتج العدوّ الإسرائيلي هذا المعتقل؟ وما هي دوافعه؟ وما هي وسائل التعذيب "الحضارية" لانتزاع الحقيقة والنتائج المترتبة عليها؟ ومن هم أبرز العملاء الذين ارتكبوا جرائم حجز الحرية والخطف والزجّ في غياهب السجن والقتل والإيذاء والتهديد والاغتصاب، وكلّها تصل عقوبتها مجتمعة إلى الإعدام اذا سُمِح للعدالة بأنْ تسلك طريقها السليم من دون تدخلات ووساطات وتحايل على القانون وتليينه بما لا يرضي الوجدان ولا الإنسان؟
خلال الانتداب الفرنسي للبنان، وتحديداً في العام 1933، ارتأت فرنسا تشييد ثكنة لقواتها المرابطة في منطقة الجنوب، فوقع خيارها بعد سلسلة استكشافات على موقع استراتيجي مهم عسكرياً يصون جنودها ويوفّر لهم الأمن والأمان والسيطرة الميدانية، في تلّ مشرف في بلدة الخيام يطلّ من ناحية على هذه البلدة الوادعة وسهلها المنبسط وبعض القرى اللبنانية المحاذية ولو بالنظر، ومن ناحية ثانية، أي من جهة فلسطين المحتلة، تمتدّ تحته أراض لبنانية غيّر الاحتلال أسماءها وعناوينها وقَلَبَها بحسب مزاجه، مثل مستعمرة المطلّة التي هي قرية لبنانية كانت تتبع لقضاء مرجعيون، ويمكن للواقف في هذا التلّ أنْ يرى بصورة واضحة منطقة إصبع الجليل في شمال فلسطين، ومرتفعات الجولان السوري المحتل.
لم تكن هذه الثكنة العسكرية متطوّرة وفارهة، بل هي أشبه بنقطة المراقبة المركزية. كان الجنود الفرنسيون يتشاركون وخيولهم وأحصنتهم بعض الغرف التي تحوّلت إلى اسطبلات وزرائب لتقيهم شرّ البرد والعواصف والمطر في فصل الشتاء.
وبعد عشر سنوات، أي في العام 1943، انبلج فجر الاستقلال، فترك الانتداب هذه الثكنة ورحل، مسلّماً مفاتيحها الى الجيش اللبناني الذي كان في بدء تكوينه ونشأته ولا يستطيع عديده القليل آنذاك أنْ يملأ الفراغات والمساحات، ومع ذلك أمكنه الاستفادة منها على مدى خمسة وثلاثين عاماً. ومع تنفيذ الاجتياح الإسرائيلي الأوّل للجنوب فجر يوم الأربعاء الواقع فيه 15 آذار (مارس) من العام 1978 تحت عنوان "عملية الليطاني"، ومن ثم مع الاجتياح الثاني في حزيران (يونيو) من العام 1982، وضع المحتلّ يده على هذه الثكنة وأعطاها لميليشيا المتعاملين معه للتحصّن فيها واعتمادها مركزاً أساسياً للتحقيق، ولكنه ما لبث مع انسحابه إلى ما سُمي بـ"الشريط المحتل" تحت وقع ضربات المقاومة، أنْ جعلها معتقلاً بديلاً للمعتقل الذي كان جاثماً في بلدة أنصار الجنوبية منذ افتتاحه في 14 تموز (يوليو) من العام 1982 لغاية حصول ذلك التحرير الجزئي في العام 1985، حيث حفر الكثيرون من الشبان والرجالات والمقاومين والصبايا والمقاومات أسماءهم وأسماءهن وأعمارهم وزهرات أعمارهن على جدرانه وأبوابه وصدى صمته المدوي أكثر من شرارات التعذيب والتعنيف الجسدي، وقضوا فيه حياة ذليلة لا تزال آثارها ماثلة في أجسادهم وغير قابلة للمحو والنسيان، وترسّخت في أذهانهم وذاكرتهم حتّى باتت جزءاً لا يتجزّأ من هذه الذاكرة الجماعية لوطن قابع تحت نير الاحتلال، ومقاومة قدّمت التضحيات الجسام لرفع شأن الوطن ومواطنيه، وتعزيز عزّتهم وكرامتهم وإنسانيتهم.
علي الموسوي
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018