ارشيف من : 2005-2008

رمضانيات.. الصوم تثبيت للإخلاص ومنبع للإرادة

رمضانيات.. الصوم تثبيت للإخلاص ومنبع للإرادة

بقلم الشيخ محمد توفيق المقداد‏

لا يتصورن أحد أن السعادة الحقيقية بما تمثله من الفرح المطلق وراحة البال المطلقة ممكنة في هذه الحياة الدنيا، وذلك لسبب جوهري هو أن "الدنيا موطن العمل والتعب والاجتهاد"، مع ما يرافق ذلك كله من مظاهر التقاء البلاء والامتحان والألم والمعاناة، وقد يحصل الإنسان فيها على بعض اللحظات من السعادة الوهمية في الأوقات المختلفة من عمره الذي يقضيه في هذه الحياة الاولى.‏

من هذا المنطلق، كانت الدنيا سجن المؤمن، لأنه لا يبحث عن تلك اللحظات من السعادة الزائفة التي يتوهمها الكثير على أنها الحقيقة للسعادة التي يسعى اليها، مع أنها ممزوجة بألم المعاناة، بل إن المؤمن هو الذي يسعى من خلال ايمانه الى أن يتحمل كل الهموم ويعتصر المرارات في حياته، عبر عملية معقدة وطويلة من الكر والفر النفساني، الذي يبذل فيه المؤمن كل جهوده حتى يستقوي على كل عوامل الضعف والانهزام في نفسه، ولكي يحقق بالتالي حلمه بالوصول الى السعادة الأبدية الحقيقية في الحياة الآخرة الخالية من أي معنى من معاني الألم والمعاناة، لأن المؤمن يكون قد دفع مسبقاً في الحياة ثمن تلك السعادة التي حصل عليها بفضل الله، وكثمرة لجهوده التي بذلها، من خلال سلوك الطرق السليمة التي أوصلته الى ما سعى اليه وأراد.‏

ومن خلال سعي الإنسان في سبيل ذلك الهدف الكبير، تتجلى في هذا المخلوق المؤمن كل معاني الانسانية الرفيعة والقيم الاخلاقية السامية المثبتة أن اخراج الله للانسان من حيّز العدم الى ما يشبه الوجود، يمكن ان يرتقي هذا المخلوق ويتكامل ليصبح وجوداً حقيقياً تبرز فيه عظمة الخالق في قابلية المخلوق الأنموذج والقدوة.‏

وهذه الحقيقة في الانسان هي التي تشير اليها الآية القرآنية الكريمة "قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها"، وكذلك قوله تعالى "إنا هديناه السبيل، إما شاكراً وإما كفوراً".‏

ولا شك بأن هذا السعي يحتاج الى القوة والقدرة، وبالطبع ليس المراد من القوة هنا القوة المادية لأنها هذه هي نتيجة لقوة أخرى داخلية قابعة في العمق من النفس البشرية، وهي قوة الإرادة التي هي المصدر الأساس لحركة القوة الفعلية الخارجية من الانسان على مستوى الفعل أو الترك أو الإحجام أو الإقدام.‏

وتلك القوة النفسانية المعبر عنها بالإرادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً لا انفكاك عنه بالقوة العاقلة المدركة التي زوّد الله الانسان بها حتى يستطيع التمييز بين الأشياء المقربة له الى الهدف الساعي اليه وبين الأمور المبعدة عنه.‏

والنفس البشرية التي هي الموطن والمنشأ لكل حركة المشاعر والأحاسيس المتعلقة بالرغبات والشهوات هي ميدان الجهاد بين الفضائل والرذائل في مستواها التصوري، والحياة الدنيا بما تضمه من التحيز المادي للأشياء هي ميدان الجهاد للفضائل والرذائل بحقائقها المادية المتجسدة في الخارج بالنحو المطابق لما هو الموجود في الداخل النفساني.‏

والله سبحانه الذي خلق الانسان على تلك الصورة، وأوضح له كل السبل والمناهج، وبيّن له الايجابيات والسلبيات الناتجة عن اختياره النابع من إرادته الحرّة المستقلة، هو الذي ينبغي عليه أن يتحمل المسؤولية الكاملة عن اختياره، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.‏

وبتعبير آخر، فإن الله الخالق لكل النعم في الحياة الدنيا، التي تعتبر بحد ذاتها من المحفزات التامة للشيطان لإغواء الانسان وتغريره ودفعه نحو الانغماس فيها الى أبعد ما يمكن أن تطاله الوسوسات الشيطانية، فإن الله سبحانه من جهة أخرى قد أنذر الإنسان وحذره من الالتفات الى تلك الإغراءات التي يخاطب فيها الشيطان النفس البشرية بطريقته المجبولة في خلقتنا وتكويننا، ويجري فينا مجرى الدم المحرك لأعضائنا وحواسنا، ووضع له برنامجاً متكاملاً يستطيع به التغلب على كل تلك الإنحرافات التي يحاول الشيطان توجيهه اليها فيما إذا أعمل الانسان عقله وجعل نفسه تحت قيادته وبتوجيه من التكاليف والتعاليم الإلهية الواضحة في معظم المجالات.‏

من هنا، كان المنهاج العبادي بمعناه الخاص في الإسلام هو الدواء الأفضل والسلاح الأنفع في مواجهة كل الضعف الإرادي الحاصل عند الانسان، والذي يدفع بها لى ارتكاب المحرمات تارة والوقوع في الشبهات حيناً آخر، أو الى ترك الواجبات الالهية في المواضيع المختلفة التي قد يتعلق الانسان بشيء منها ويريد الحصول عليه أو الوصول اليه، كما نرى عند الكثير من أصحاب النفوس المريضة والضعيفة التي ساقتها انحرافاتها الى الغفلة عن الله بالكلية، أو إذا لم تؤد بهم الى ذلك، فإنها أسرتهم وسيطرت عليهم فبقي الله مجرد فكرة في القول لا تملك القوى والسلطة على مثل هؤلاء من أجل تحريرهم مما هم عليه من بؤس وشقاء بالمفهوم الإلهي للحياة والنقم الدنيوية.‏

وهذا يعني، أن الإنسان يمتلك من القدرة على المواجهة والرد أكثر من قدرة الشيطان على الغواية، فما بين الوعيد الالهي الذي يلعب دوراً في لجم النفس، وما بين الوعد الذي يدفعها للعمل وتحصيل الملكات يتمكن الإنسان من قهر كل عوامل الإنحراف النفساني التي غالباً ما تكون ناتجة عن نقص مسبب بنحو الغالب عن تقصير الإنسان في السعي والجهد من أجل رفعه، وأحياناً قد يكون ناتجاً عن قصور وعجز، الا أن هذه الحالة شاذة بحسب أصل التخطيط الالهي للإنسان ودوره ونتيجته في الحياة الآخرة.‏

إذاً لا بد من وجود الوسيلة التي تكون خير عون للإنسان على امتلاك الإرادة القوية والعزيمة الراسخة القادرة على مواجهة كل الإغراءات الموجهة الى الجوانب الضعيفة في النفس البشرية، وأفضل ميدان للنفس في هذا المجال هو "شهر رمضان المبارك" الذي يحوي ضمن أفضليته طاقات روحية منبعها الفيض الإلهي الذي لا ينضب، واذا تمكن الانسان من أن يعيش هذا الشهر على النحو الذي يجعله مورد العناية الإلهية والرعاية الربانية التي إن وصل اليها، فهذا يعني الرضا الإلهي الذي لا يهم الإنسان بعده أي شيء، شرط أن يبقى محافظاً على ذلك عبر التحرر من شعور الغرور والتكبر أو الاستعلاء.‏

فالصوم الذي يقول عنه رب العزة تبارك اسمه"الصوم لي وأنا أجزي به"، يحتاج الى الصبر الممزوج بالألم والمعاناة نتيجة الإمساك عن أهم الاحتياجات المادية الأساسية، وقد ورد في تفسير قوله تعالى "واستعينوا بالصبر والصلاة" أن الصبر هو "الصوم"، وهذا مما لا غرابة فيه، لأن الابتلاء الالهي واضح في هذه العبادة الجليلة، وهذا الصبر الذي ينمو شيئاً فشيئاً من خلال الصوم هو ثمرة الارادة النفسانية التي تقوى أيضاً قليلاً قليلاً كلما تعمق الانسان بالسير في هذا التوجه السليم الذي لا شك هو مورد النظر الإلهي والعناية الربانية.‏

وتلك الارادة التي تقوى شيئاً فشيئاً لا شك أنها نتاج التعمق في عملية الإدراك العقلي لوظيفة الإنسان ودوره، وهذا ما يدفع بالمرء الى الإخلاص لله وحده وصرف النظر عما سواه، لأنه لا يرى غير الله أهلاً للتوجه اليه بأعماله وتصرفاته، لأن المعاناة والألم الناتجين عن الصبر الذي يمارسه المرتبط بالله من خلال الصوم لا يرى ثواباً أكثر مما يمكن أن يقدمه الله له، وهذا ما عبرت عنه سيدة نساء العالمين الزهراء سلام الله عليها في فقرة من خطبتها عندما قالت "والصوم تثبيتاً للإخلاص".‏

ولهذا، فقد ورد المدح العظيم لعبادة الصوم، باعتبار أنها المنبع لتولد الارادة القوية، التي كلما قويت كانت خير معين للإنسان على صفاء النية في التوجه نحو الله، وذلك الصفاء هو الذي يتحول بالتدريج للوصول الى حالة الإفلاس التي تطرد كل ما يمكن النفاذ ليكون شريكاً لله في الأعمال الصادرة عن الانسان.‏

وفقنا الله لصيام هذا الشهر المبارك "شهر الله" كما يحب ويرضى لنكون أهلاً لنيل مغفرته ومرضاته ودخول جنته الى جوار الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء، خصوصاً خاتم الانبياء محمداً (ص) وأهل بيته الطاهرين المعصومين (ع).‏

2006-10-30