ارشيف من : 2005-2008
الترجمة الأميركية لتقرير ميليس سورياً:تغيير السلوك أم النظام، ولماذا؟
الانتقاد/ حدث في مقالة ـ العدد 1133 ـ 28/10/2005
قدم ميليس تحقيقه الى مجلس الأمن.. أصدر فيه أحكاماً برغم قوله هو نفسه، ان التحقيق لم يكتمل، وإن كشف الحقيقة في جرائم من هذا النوع قد يحتاج الى شهورٍ وربما سنوات.. وإن قرائن البراءة ما زالت موجودة بحق المتهمين والمشتبه بهم. اذاً لماذا هذا التسرع في إصدار الأحكام واستخراج النتائج والاستنتاجات من مقدمات، أقل ما يقال فيها انها جدلية وقابلة للأخذ والرد، إن لم يكن للتشكيك. فمقدمات من هذا النوع لن تفضي إلا الى استنتاجات مشكوك فيها، وهي أبعد ما تكون عن اليقين الذي تحتاجه قضية مثل قضية اغتيال الرئيس الحريري، ذلك ان ميليس يدرك تماماً موقع عمله، وموقع تقريره ونتائجه، ليس على طريق الكشف عن الحقيقة، وإنما على طريق الاستثمار السياسي للتحقيق في لعبة الصراعات الدولية، بل في لعبة المخططات والمشاريع الأميركية على لبنان والمنطقة. تقرير يراد له أن يكون لمفعوله مفعول الذرائع التي تُشن بها حروب على أمم، وفرض تغييرات جيو ـ سياسية عميقة، يفترض أن يأخذ وقته بالكامل، ويفترض به ان يبني استخلاصاته على مقدمات يقينية، أي على أدلة قطعية وقرائن حاسمة وشهادات لا تأخذ اللون الواحد أو الطعم الواحد. كان بإمكان ميليس على الأقل أن ينتظر الى 15 كانون الأول، الموعد المأذون له به من خلال الأمم المتحدة، وبالتالي لا ضرورة للاستعجال، الأمر الذي يشي بأن صدور التقرير الآن كان مطلوباً بإلحاح من آخرين. قراءة توقيف صدور التقرير وقرار التمديد لعمل لجنة التحقيق حتى أواخر العام، تفضي الى خلاصة أساسية: المطلوب منذ الآن البناء على مقدمات موضوعة سلفاً، وموعد الخامس عشر من كانون الأول يجب ان يكون الموعد الحاسم، لا نقطة البداية بالنسبة الى الكثير من القرارات. من يقف وراء هذه المسألة يبدو مستعجلاً ومحكوماً لاعتبارات متعددة تخص مصالحه الخاصة.
وفي مطلق الأحوال، قال ميليس حقيقته، أطلق السجال حولها. البعض رأى في التقرير الحقيقة المنجزة، قافزاً حتى فوق تحفظات ميليس نفسه.. البعض الثاني اعتبرها خطوة على الطريق.. البعض الثالث اعتبر ان التحقيق لم يقل شيئاً بعد، وأن علينا الانتظار.
دولياً لم تخلُ المواقف من تباين: الحلف الأميركي ـ البريطاني ـ الفرنسي كان الأسرع في تبني استنتاجات التقرير، والأسرع في العمل على قطف نتائجه السياسية. الروس والصينيون أظهروا تحفظاتهم المعروفة.
من الواضح ان شد السجال الى الوراء لم يعد ممكناً. بمعنى أوضح، ان كثافة الضغط الدولي وتحديداً الأميركي ـ الفرنسي ـ البريطاني والسرعة الملحوظة في الحركة والمبادرة، خصوصاً لجهة طرح مشروع قرار دولي جديد يكبل سوريا ويضغط عليها بما هو ممكن، ويضيق عليها خياراتها ويلوح لها بعصا غليظة هي البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو البند الذي يجيز استخدام القوة لفرض العقوبات.. كل هذا إنما يستهدف بادئ ذي بدء جعل أي حوار حول مصداقية التقرير وصدقيته وراء الجميع، وتثبيت استنتاجاته كأحكام منجزة وأخيرة. وبناءً على هذا كله فالمقتضيات الضرورية والتقرير والطريقة التي سيتعامل معها مجلس الأمن، تجعل أي تعامل سجالي مع التقرير مجرد تمرين جدلي فاقد لأي قدرة على إحداث تغيير في ما يمكن إدراجه تحت عنوان: ما كُتب قد كُتب.. وانتهينا، وعلى الجميع التعامل مع النتائج كما هي.
من هنا فإن مواجهة المخطط الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الفرنسي ـ البريطاني باتت تحتاج الى أكثر مما هو مجرد جدال لفظي. المواجهة وقعت، ومشروع القرار الأميركي ـ الفرنسي يعلنها صراحة اذا ما مرّ كما هو.. نحن بالفعل أمام سيناريو مكرر لما حدث في العراق، وإنما هذه المرة لأغراض استراتيجية تتجاوز سوريا لتشمل قوس الممانعة في لبنان وفلسطين، مروراً بسوريا والعراق وحتى إيران. الحواجز السميكة التي تبنى يومياً بين لبنان وسوريا ليست مزحة، لا الحواجز النفسية ولا الحواجز السياسية ولا الحواجز الحدودية.. فتح ملف السلاح الفلسطيني ليس بدوره مزحة ولو ثقيلة، والشرارات الأمنية التي أخذت تصدر حول المخيمات تبدو مشبوهة الى حد كبير.
زج اسم أحمد جبريل في التقرير على نحو متعسف وفاقع ليس مجرد إشعار بعيد. الكلام الإسرائيلي المكثف حول مضمون تقرير لارسن الذي يراد له أن يكون مكملاً لتقرير ميليس ويصب في الاتجاه نفسه يكشف الكثير، سواء في ما له صلة بسوريا والنظام فيها، أو في ما له صلة بالسلاح الفلسطيني وسلاح المقاومة في لبنان. المواقف التي أطلقها بوش ومن قبله رايس تقول الكثير: الأولوية المطلقة لعزل سوريا عن لبنان والعراق وفلسطين وإيران. هنا مكمن اللعبة الشيطانية، ومن هنا تبدأ القراءة: استراتيجية العزل والتفكيك وعزل سوريا عن لبنان إما طوعاً وإما كرهاً، وفي الحالتين المطلوب تغيير النظام. عزل سوريا عن الفصائل الفلسطينية وعن القضية الفلسطينية، وعزلها أيضاً عن المقاومة في لبنان، وأخيراً عزل سوريا عن إيران. باختصار، المطلوب أخذ كل طرف على حدة، ولا شك في ان سوريا اليوم هي مركز الثقل في هذه الخطة. في هذه المناخات الملبدة والتوجهات الخطيرة بكل أبعادها، لا تعود التطمينات اللفظية تكفي، ولا الاكتفاء بإطلاق المواقف، لأننا بالفعل نحن أمام أكثر بكثير من "17 أيار" جديدة.
مصطفى الحاج علي
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018