ارشيف من : 2005-2008

لبنان ما بعد تقرير ميليس: أية بداية؟

لبنان ما بعد تقرير ميليس: أية بداية؟

الانتقاد/ حدث في مقالة ـ العدد 1132 ـ 21/تشرين الاول/ اكتوير 2005‏

لم يعد ميليس محققاً قضائياً جاء ليكشف الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بل بات كابوساً مرعباً يقض مضاجع اللبنانيين، فلا يهنأ لهم نوم، ولا تطيب لهم راحة، أنفاسهم محبوسة، وعيونهم جاحظة يأكلها الرعب من الغد. ولم يعد تقريره مجرد رواية قضائية لما جرى، وانما قنبلة نووية، يراد لها، نقل لبنان، ليس من مرحلة الى مرحلة، وانما من عصر الى عصر، فما بعد التقرير هو غيره قبله، والسبت القادم هو غير أي سبت آخر. هكذا جرى وتجري عملية تسويق ميليس وتقريره. انها صناعة الكابوس، بل الكوابيس للبنانيين. لكن لماذا؟ لماذا كل هذا التهويل؟ لماذا كل هذا الجلد للبنانيين بالرعب صباحاً ومساءً؟ وماذا لو أتى يوم الجمعة أو السبت ولم يحدث أي شيء؟ ماذا لو أتى التقرير دون تمنيات البعض، وحسابات البعض الآخر، والسقوف العالية لبعض ثالث؟ وحتى لو أتى التقرير حاملاً اتهامات، فهل يفترض لهذا ان يؤدي الى بلبلة لها أول وليس لها آخر؟ اذا كان البعض يخاف من الحقيقة؟ أليس هناك اليوم في لبنان من يخوف، بل ويرهب الناس بالحقيقة، وكأنه يريد لهم ان يكرهوها فلا تكون؟ بل هناك من يريد خطف اللبنانيين بالرعب، وتزنيرهم بالخوف، بحيث يسهل تمرير الكثير من المواقف والاجراءات والسياسات، بذريعة انها لحمايتهم، ومن أجل خلاصهم الأمني والسياسي، اضافة الى خلاصهم الاقتصادي، في هذا الاطار، يصبح للاحداث الأمنية، وللاغتيالات، وظيفة اخرى، ومعنى آخر، هي وظيفة ومعنى صناعة الكابوس الذي ليرتاح اللبنانيون منه عليهم ان يتغلبوا على كل ما يطلب منهم دولياً. هنا تصبح لمكنسة الـ اف ـ بي ـ آي، وظيفة، بل ودور جوهري.‏

في هذا الاطار، يصبح مفهوماً معنى خلط الأولويات، معنى ان يصبح مجدداً السلاح الفلسطيني بنداً أول على "الأجندة" الدولية، و"الأجندة" اللبنانية، ومن مدخل التحقيق نفسه. الوصول الى السلاح الفلسطيني عبر القرار 1559 أصعب من الوصول اليه من بوابة لوازم القرار 1595. هنا، يتقاطع الاثنان، هنا، تتقاطع مهمة لارسن مع مهمة ميليس، ولذا ليس من عجيب الصدف ان ينشط الاثنان معاً، وعلى نفس المسارات، ويصوغان تقاريرهما في وقت واحد. التعامل مع نتائج التحقيق تتطلب التعامل مع السلاح الفلسطيني، بعدما اتهم سلفاً بأنه سلاح في وجه التحقيق ونتائجه. وفجأة تعقد اللقاءات في باريس، تجمع رئيس السلطة الفلسطينية (أبو مازن)، ولارسن، ووزير الخارجية الفرنسي، ورئيس الحكومة، وفجأة يجري تدويل هذا السلاح من خلال الكلام عن احتمال اصدار قرار عن مجلس الأمن يتعلق بهذا السلاح ومنه بسوريا. وفجأة أيضاً يرفع لارسن عقيرته ليعلن ان المطلوب ليس فقط التعامل مع السلاح خارج المخيمات، وانما أيضاً مع السلاح في داخل المخيمات. رئيس السلطة الفلسطينية يقولها واضحة: اذا كنا لا نقبل الا سلاحاً واحداً في غزة وهو سلاح السلطة، فكيف يمكن ان نقبل في لبنان بغير ما نرتضيه لأنفسنا. جمع هذه المواقف بعضها الى بعض لا يقود الا الى نتيجة واحدة: المطلوب ليس السلاح بحد نفسه، المطلوب هو السلاح المقاوم، سواء بمعناه الرمزي، ام بمعناه الفعلي. لا بقاء بعد الآن الا للسلاح الرسمي، السلاح المقنن والمكبل بالضغوط والاملاءات الاميركية والفرنسية والاسرائيلية.‏

اذاً، المسألة ليست ان السلاح الفلسطيني هو مشروع فتنة، أو أداة فتنة داخلية، المسألة أكبر من هذا بكثير، انها مسألة المقاومة، ولذا لم يكن بدعاً ان يتمادى لارسن، والى درجة الوقاحة، في الاعلان: ان سلاح المقاومة في لبنان لم يعد مبرراً، وانه منذ ترسيم الخط الأزرق لم يعد لهذا السلاح ما يبرره. وبالتالي المطلوب ايضاً نزع هذا السلاح.‏

سلاح المقاومة والسلاح الفلسطيني ليسا مجرد بندين في قرار واحد، بل هما هدفان متلازمان في "أجندة" اميركية ـ اسرائيلية واحدة.‏

لا يراد لتقاطعات الـ1559 والـ1595 ان تقف عند حدود الاعتبارات اللبنانية، بل يراد لها، ان تمتد أيضاً لتصل الى دمشق: المطلوب اميركياً تغيير السلوك السوري، وتحديداً في العراق ولبنان.‏

تغيير السلوك مطروح هنا، في مقابل غض النظر عن تغيير النظام، اي مقايضة تغيير السلوك ببقاء النظام، والا على سوريا ان تتهيأ لمزيد من الضغوط، ولمزيد من العزلة الدولية، ولمزيد من اعمال الحصار المتنوع المشارب والمآرب.‏

وفوق هذا، وذاك، ثمة من يتهيأ لاستئناف هجومه على سدة رئاسة الجمهورية، ويعمل على بث الروح من جماعة 14 آذار، او لنقل في وظيفتها الدولية ـ الداخلية.‏

هذه الوقائع والتطورات التي يتم تهيئة الاجواء لها لا تنطلق من خطوط متوازية، من تداعيات القرارين 1559 و1595، بل من عملية خلط دولية لمفاعيل ونتائج هذين القرارين بحيث يجري استثمار كل منهما لخدمة الآخر. وهل هناك تسييس أكثر من هذا؟‏

وفي مطلق الأحوال، ان لبنان الذي امتنع عن السقوط تحت ثقل كل الآلة العسكرية الاسرائيلية ـ الاميركية، لن يسقطه كابوس ميليس المصطنع، لأن الحقيقة تبقى أقوى من كل كابوس، وتلقف سحر السحرة، لأن الساحر لن يفلح أنى أتى؟‏

مصطفى الحاج علي‏

2006-10-30