ارشيف من : 2005-2008
لبنان بين انتظار تقرير ميليس لاستكشاف اتجاهات الأمور ولعبة الفصل والربط بين القرارين 1559 و1595
يعيش لبنان، على الأقل، منذ صدور القرار 1595 الذي أنشئت بموجبه لجنة تحقيق دولية باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وضعاً شديد الالتباس والتوتر. فمن جهة، كان واضحاً، ومنذ البداية، ان هذا القرار، هو أحد أدوات الوصاية الدولية الجديدة على لبنان، بعد أن شكل القرار 1559 أداة الوصاية الاستراتيجية، ومن جهة أخرى، كان واضحاً، واستناداً الى ما جرت محاولة فرضه كحقائق أمر واقع، ان المطلوب من لجنة التحقيق الدولية، أن تفصل نتائجها على قياس ما تم فرضه بالإكراه السياسي والاعلامي، ولدرجة بتنا معها أمام ما يشبه الهولوكوست اللبنانية، وان تشكل، بالتالي، المدخل لتنصيب محاكم تطهير سياسية وأمنية تشمل لبنان وسورية معاً، وصولاً الى انجاز الانقلاب السياسي المطلوب إحداثه في لبنان.
من هنا، بدا جلياً، ان المعوّل على المهمة كبير، بل يشكل حجر الزاوية في استراتيجية واضحة المعالم والأبعاد، هذه الاستراتيجية التي حاولت أن تأسر الأوضاع في لبنان وسورية معاً في اطار من المحاكمة المسبقة والأحكام المسبقة، من دون أدنى التفات الى العيب الاستراتيجي في استراتيجيتها نفسها، انطلاقاً من أن اي استراتيجية ناجحة لا يمكن ان تنهض على أمورٍ ظنية وذاتية وافتراضات متخيلة، بل لا بد لها من وقائع وحقائق صلبة. لكن لحظة الانتشاء التي عاشها البعض، وافتراض ان ما تريده الدول الكبرى يصبح نافذاً، متناسية أو متجاهلة انه تبقى هناك دائماً مسافة كبيرة بين التمنيات والرغبات والقدرات على تنفيذهما، جعل هذا البعض يعيش أسير نظرة تبسيطية لوقائع الأمور، لدرجة يبدو معها، وكأنه لم يضع لنفسه احتمالات التراجع أو الانكفاء التكتيكي، وبالتالي لم يأخذ في الحسبان حسابات المخاطر السياسية وغير السياسية التي يمكن ان تترتب على مغامرات ومجازفات لها طابع استراتيجي من هذا النوع.
من هنا، ثمة اتجاه دولي ـ اقليمي ـ محلي، كان يسعى منذ البداية لإقامة رابط استراتيجي بين القرارين الدوليين: 1559 والـ1595، لا سيما بعدما بدا ان اكمال تنفيذ باقي بنود القرار 1559 لن يكون سهلاً، بل هو معقد، غاية التعقيد، وتتداخل عناوينه بعناوين الصراعات الاستراتيجية في المنطقة، ولا تقف عند الحدود اللبنانية، لدرجة يمكن القول معها، ان تنفيذ بند الانسحاب السوري من لبنان كان هو البند الأسهل. ومع ادراك المعنيين بهذا القرار لهذه التعقيدات أخذ يتم البحث عن مراحل أخرى التفافية، فكان القرار 1595، لكن كيف؟
أولاً: استثمار التفجيرات الأمنية وعمليات الاغتيال السياسي في اتجاهين أساسيين: تحميل المسؤولية لـ"الأشباح" الأمنية، ولما يسمى بـ"النظام الأمني اللبناني ـ السوري" السابق، وصولاً الى تحميل بعضها لجهات فلسطينية محددة، وهكذا يبقى الملف الأمني السوري في لبنان مفتوحاً، ومعه الجزء المتعلق منه من القرار 1559، وملف التغيير الأمني والسياسي وصولاً الى رئاسة الجمهورية أيضاً مفتوحاً، وهو، بالمناسبة مشمول بالقرار 1559 انطلاقاً من رفض التمديد، والشروع في فتح ملف السلاح الفلسطيني الذي يشكل البند الثاني أيضاً من القرار 1559 أيضاً.
ثانياً: تظهير الواقع المتداعي لعمل الأجهزة الأمنية في لبنان، لتبرير الاضطرار الى اللجوء لطلب مساعدات، يصادف ان تكون أيضاً، وحصراً، من دولتي الوصاية الدولية على لبنان: اميركا وفرنسا، هاتين الدولتين اللتين لم تتوقف الرحلات المكوكية اليهما، والزيارات التي تكاد تكون شبه متواصلة، لخبراء امنيين وعسكريين يتولون مهمة دراسة الاحتياجات الرئيسية للأجهزة الأمنية، وهي احتياجات تتجاوز الاعتبارات الفنية، الى اعادة صياغة هيكلياتها الجديدة وفق أدوارٍ جديدة.
ثالثاً: تكثيف الضوء على مسألة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وصناعة قضية فلتان الحدود اللبنانية ـ السورية، وذلك في مغزى سياسي واضح، يستهدف الإمعان في رسم الحواجز الأمنية بعد رسم الحواجز النفسية والسياسية، وبالتالي الإمعان في ضرب العلاقات اللبنانية ـ السورية.
إن أخطر ما في هذه التطورات انها تعيد انتاج صورة السوري والفلسطيني بصورة العدو في محاولة واضحة للتلاعب بالأولويات، ولتبرير ما يجري، ولجعل الـ1595 حصان طراودة للقرار 1559. هذا مع ملاحظة ان كل ما تقدم كان، ولا يزال، يتم تقديمه انطلاقاً من ربطه بالنتائج المرتقبة للجنة التحقيق الدولية، اي بالقرار 1595. فالتفجيرات الأمنية والاغتيالات جرت قراءاتها كردود فعل، وكأعمال ضغط على مسار التحقيق، اما السلاح الفلسطيني والكلام عن انتقال مسلحين فلسطينيين، فقد جرى تقديمها بوصفها استعدادات سورية للتعامل مع نتائج التحقيق، التي، بحسب هؤلاء، محسومة لجهة ادانتها لسوريا، وللقادة الأمنيين الأربعة الموقوفين.
وفي مطلق الأحوال، فإنه بعد التوجه لتمديد عمل لجنة التحقيق حتى منتصف شهر كانون الأول، ينتظر الجميع لما سوف يقوله ميليس في تقريره المنتظر، والذي تتجاذبه من الآن قراءتان اساسيتان: الاولى، ترى انه توصل الى نتائج حاسمة، وان التأجيل ليس الا لمزيد من الحاجة الى الوقت لترتيب عملية التعامل مع هذه النتائج. والثانية تجزم، أنه لم يتوصل الى نتائج حاسمة، ولا يملك أية قرائن قضائية، وبالتالي فحاجته الى الوقت هي لاحتمال توصله الى أدلة جديدة، وللسماح لمن بنى حساباته على أمورٍ مغايرة لترتيب أوضاعه، ولاعطاء فرصة للولايات المتحدة لتمرير بعض الاستحقاقات الدولية والاقليمية الأساسية، وبالتالي لا بد من عدم ترك لبنان في حالة فراغ دولية تسمح بضبط اللعبة فيه، من خلال الاحتفاظ بالمسرح، وأدوات الضغط، وترك المسائل مفتوحة على كل الاحتمالات.
من هنا، فإن ما بعد صدور التقرير ستكون أهميته في تحديد مسارات الأمور، واتجاهات الكباش الدولي ـ الاقليمي ـ المحلي.
مصطفى الحاج علي
الانتقاد/ حدث في مقالة ـ العدد 1131 ـ 14 تشرين الاول/ اكتوبر 2005
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018