ارشيف من :آراء وتحليلات
(غيبوبة) السياسة المصرية منذ أربعة عقود: الأزمة مع دول حوض النيل مثالاً

لؤي توفيق حسن(*)
لم يكن مفاجئا رفض وزراء دول حوض النيل السبعة في شرم الشيخ طلب مصر بزيادة كمية 11مليون مترمكعب على حصتها لسد عجزها المائي. فقد سبق لهذه الدول أن اعلنت في كينشاسا (أيار 2009)، ثم الاسكندرية (تموز2009) عن نيتها في اعادة النظر باتفاقية توزيع المياه المبرمة عام 1929 بداعي أنها جرت برعاية بريطانية ولم تضع بعين الاعتبار مصالح هذه الدول‼!.
لم يكن مفاجئا ما سبق، كما لم يكن مفاجئا ولا غريبا أن تصل مصر الى الحائط المسدود، هذا لمن ينظر لسياسات حكوماتها التي لا سمة لها سوى ادارة الازمات و حسب على مدى اربعة عقود، بعد ان غاب عنها الوعي بحقيقة السياسة بوصفها (فن) صناعة المستقبل، انطلاقاً من امكانيات الحاضر بالطبع .
كان ينبغي ان ترتقي مسألة مياه النيل في مصر الى مستوى القضية الاستراتجية الكبرى كونها تشكل 95% من احتياجاتها المائية، وبالتالي فهي مرتبطة بأمنها الغذائي، بل حاضرها ومستقبلها كبلد يشهد نمواً مطرداً في تعداده السكاني.
كما وأن دخول المنطقة في أزمة مائية حادة هو من الأمور المتوقعة، بل جرى تداولها في وقت مبكر، وأشهد بهذا الصدد ان الدكتور نور الدين الرفاعي أستاذ الهندسة المائية في كلية الهندسة ـ جامعة دمشق قد بين في احدى محاضراته بأن حروب المنطقة القادمة ستكون بسبب المياه، وكان ذلك عام1976 .
ولا شك بأن مصر لديها من الخبراء في حقل المياه بما لا يخفى عنهم ما سبق ونحسب بأنهم نبهوا ولكن التحذير الصريح جاء عام 1988 من مركز الدراسات الاستراتجية الدولية في واشنطن حيث توقع " بأن المياه وليس النفط سيكون القضية المهيمنة في الشرق الأوسط بدءً من العام 2000".
والسؤال الآن: هل دول الحوض تعاني من عجز مائي حقاً؟!.
الجواب: لا ثمّ لا. فإحتياجاتها من مياه النيل لا تتجاوز 3%. فماذا وراء الأكمة إذاً؟!
فتّشوا عن إسرائيل!. هذا ما بات يدركه أكثر من مسؤول مصري ولمّحوا اليه، ولا غرابة فالعدو يعاني من نقصٍ شديد في المياه يصل الى حوالي مليار متر مكعب سنوياً. يسعى لسدّ جزءٍ منها من سرقة مياه الضفّة. ومن نهر الأردن على حساب حصّة المملكة الأردنية. ومع ذلك فهو يشعر بالمزيد من القلقّ حيال حاجاته المستقبلية، وترتقي عنده مسألة المياه الى قضيّة الحياة أو الموت.
في أوّل إجتماع للجنة المياه التي نبثقت عن مؤتمر مدريد ـ قاطعتها لبنان وسوريا ـ والذي إنعقد في مسقط نيسان/ أبريل 1994، دعا رئيس الوفد الإسرائيلي يوسي بيلين الفلسطينيين الى عدم الخوض في حقوقهم المائية، واصفاً إيًاها بأنّها "حقوق الماضي"!. ولم يتردد في (نصيحة) الوفود العربية بالإنطلاق من الأمر الواقع. داعياً الى العمل على إيجاد مشاريع مشتركة "بدلاً من التركيز على الحقوق".
لعلّ ما سبق يرسم ملامح السياسة الإسرائيلية وقد أعدّت ملفات مشاريع الماء للإستفادة من مصادرها في دول المنطقة:
جرّ مياه الليطاني. (قناة السلام) من تركيا ـ (ترعة السلام) من نيل مصر.
أمّا الليطاني فقد أُكرهت على إغلاق ملفّه بعد إنسحابها عنوةً من جنوب لبنان. وسيظلّ كذلك بوصفه أحد النتائج التي ترتبت على "إستراتيجية المقاومة" التي بها أصبح لبنان منيعاً. هذه الحقيقة هي برسم المجتهدين في موضوعة "الإستراتيجية الدفاعية".
وظلّ إستجرار المياه من تركيا أمراً غير ممكن بوجود الممانعة السورية. وبات الآن مستحيلاً بعد إنقلاب سياسة أنقرة مناهضةً "إسرئيل".
لم يبق إلا مياه النيل. وهذا حلمٌ قديم راود الصهاينة منذ مؤتمرهم الأوّل. ثمّ ظهرت أطماعهم على نحو عملي عام 1903 عندما بدأ هرتزل جولاته المكوكية بين إسطمبول والقاهرة ولندن لإقناع حكوماتها بقبول مشروع لجرّ مياه النيل إلى صحراء سينا والنقب. وكادت الحكومة البريطانية أن تتجاوب لكنّها عادت ورفضت المشروع لأسباب لسنا في واردها الآن.
غير أنّ المشروع المتكامل والمدروس بشكلٍ فنّي جرى عام 1974 بإشراف المهندس الإسرائيلي "اليشع كادي" بهدف نقل 1% من مياه النيل الى فلسطين المحتلة. أي ما يعادل حوالي مليار متر مكعب سنوياً.
وبعد زيارة السادات للقدس عام 1977 تقدّم الإسرائيليون بطلب تحويل الكمية المذكورة من المياه عبر حفر ثلاث أنفاق تحت قناة السويس. وبالفعل فقد أعطى الرئيس المصري إشارة البدء في حفر "ترعة السلام" عند الكيلو 25 على طريق بور سعيد – إسماعيلية. ثمّ أطلق وعده بنقل مياه النيل الى القدس فيما أسماه "مشروع زمزم الجديد". غير أنّ السادات "وكحافز للجانب الإسرائيلي" على حدّ تعبيره عرض ذلك كيما تستخدمه إسرائيل في "إعادة إسكان المستوطنين في منطقة النقب بعد إخلائهم من المستوطنات في الضفّة والقطاع".
طوي المشروع المذكور مؤقتاً لكون مسألة الإستطان تحتلً الأولويةً في إستراتيجية الكيان الصهيوني التوسعيّة لكنّ ذلك لم يمنع من تحضيره على الورق إنتظاراً للحظة المناسبة. فقد تمّ تكليف شركة (أجيب) الإيطالية لدراسة مشروع إستكمال مدّ خطّ الأنابيب لنقل المياه الى سيناء في موازاة مشروعها لمدّ خطّ الأنابيب لنقل الغاز من مصر الى إسرائيل والذي بات قائماً الآن.
كلّ هذا وغيره كثير جرى بمعرفة الحكومة المصرية، فيما إسرائيل مصممة وبعناد على الوصول الى أهدافها في مياه النيل. وبالفعل فقد أعدّت الأرض لكي تستأثر بأوراق الضغظ على مصر لتستحوذ فيما بعد على ما تريد من مياه النيل فسعت مع حليفتها أميركا على تفكيك السودان بدءً من جنوبه. بغية إيجاد حاجزٍجغرافي – سياسي يمنع القاهرة والخرطوم من إستعمال ورقة الضغط المباشر على دول المنبع اذا ما إضطرّت لذلك. وبموازاته سعت "إسرائيل" الى تمكين نفوذها في إفريقيا عبر مشاريع تنمية في مختلف القطاعات.
وبينما تكتظّ القارة الأفريقية باللاعبين من كلّ صوب فإنّ مصر ما زالت غائبة عنها، ولعلّ الفشل مع دول الحوض هو من تداعيات عدم وجود إستراتيجية للتعامل مع القارة الإفريقية. لا بلّ مع العالم ككلّ‼.
لا تكفي نظرية المؤامرة لتفسير هذا الفشل. فلقد دخلت "إسرائيل" من فجوات وتكهفّات السياسة المصرية التي تسير خلافاً للقواعد الجيواستراتيجية. حيث المجال الحيوي لمصر يبدأ من جبال طوروس شمالاً وحتّى منابع النيل جنوباً حقائق أدركها القادة الكبار الذين تناوبوا على حكم مصر من رمسيس الثاني ـ (موحّد القطرين ) ـ إلى جمال عبد الناصر مروراً بمحمد علي باشا.
أمّا القيادة المصرية فإنّها ومنذ أيّام السادات تستبعد كلّ ما بيدها من أوراق بل قدّمت بعضها مجاناً خلافاً لأيّ منطق وعقل.
لقد إعتقد السادات بأنّ( صداقة) أميركا تشكّل ضمانة لمصر. لكن فاته ومن بعده خليفته أن يتمعنّوا جيّداً في قول هنري كسنجر(صديق السادات):" لا يوجد في السياسة أصدقاء وإنّما أعداء بدرجات متفاوتة ".
(*) كاتب من لبنان
لم يكن مفاجئا رفض وزراء دول حوض النيل السبعة في شرم الشيخ طلب مصر بزيادة كمية 11مليون مترمكعب على حصتها لسد عجزها المائي. فقد سبق لهذه الدول أن اعلنت في كينشاسا (أيار 2009)، ثم الاسكندرية (تموز2009) عن نيتها في اعادة النظر باتفاقية توزيع المياه المبرمة عام 1929 بداعي أنها جرت برعاية بريطانية ولم تضع بعين الاعتبار مصالح هذه الدول‼!.
لم يكن مفاجئا ما سبق، كما لم يكن مفاجئا ولا غريبا أن تصل مصر الى الحائط المسدود، هذا لمن ينظر لسياسات حكوماتها التي لا سمة لها سوى ادارة الازمات و حسب على مدى اربعة عقود، بعد ان غاب عنها الوعي بحقيقة السياسة بوصفها (فن) صناعة المستقبل، انطلاقاً من امكانيات الحاضر بالطبع .
كان ينبغي ان ترتقي مسألة مياه النيل في مصر الى مستوى القضية الاستراتجية الكبرى كونها تشكل 95% من احتياجاتها المائية، وبالتالي فهي مرتبطة بأمنها الغذائي، بل حاضرها ومستقبلها كبلد يشهد نمواً مطرداً في تعداده السكاني.
كما وأن دخول المنطقة في أزمة مائية حادة هو من الأمور المتوقعة، بل جرى تداولها في وقت مبكر، وأشهد بهذا الصدد ان الدكتور نور الدين الرفاعي أستاذ الهندسة المائية في كلية الهندسة ـ جامعة دمشق قد بين في احدى محاضراته بأن حروب المنطقة القادمة ستكون بسبب المياه، وكان ذلك عام1976 .
ولا شك بأن مصر لديها من الخبراء في حقل المياه بما لا يخفى عنهم ما سبق ونحسب بأنهم نبهوا ولكن التحذير الصريح جاء عام 1988 من مركز الدراسات الاستراتجية الدولية في واشنطن حيث توقع " بأن المياه وليس النفط سيكون القضية المهيمنة في الشرق الأوسط بدءً من العام 2000".
والسؤال الآن: هل دول الحوض تعاني من عجز مائي حقاً؟!.
الجواب: لا ثمّ لا. فإحتياجاتها من مياه النيل لا تتجاوز 3%. فماذا وراء الأكمة إذاً؟!
فتّشوا عن إسرائيل!. هذا ما بات يدركه أكثر من مسؤول مصري ولمّحوا اليه، ولا غرابة فالعدو يعاني من نقصٍ شديد في المياه يصل الى حوالي مليار متر مكعب سنوياً. يسعى لسدّ جزءٍ منها من سرقة مياه الضفّة. ومن نهر الأردن على حساب حصّة المملكة الأردنية. ومع ذلك فهو يشعر بالمزيد من القلقّ حيال حاجاته المستقبلية، وترتقي عنده مسألة المياه الى قضيّة الحياة أو الموت.
في أوّل إجتماع للجنة المياه التي نبثقت عن مؤتمر مدريد ـ قاطعتها لبنان وسوريا ـ والذي إنعقد في مسقط نيسان/ أبريل 1994، دعا رئيس الوفد الإسرائيلي يوسي بيلين الفلسطينيين الى عدم الخوض في حقوقهم المائية، واصفاً إيًاها بأنّها "حقوق الماضي"!. ولم يتردد في (نصيحة) الوفود العربية بالإنطلاق من الأمر الواقع. داعياً الى العمل على إيجاد مشاريع مشتركة "بدلاً من التركيز على الحقوق".
لعلّ ما سبق يرسم ملامح السياسة الإسرائيلية وقد أعدّت ملفات مشاريع الماء للإستفادة من مصادرها في دول المنطقة:
جرّ مياه الليطاني. (قناة السلام) من تركيا ـ (ترعة السلام) من نيل مصر.
أمّا الليطاني فقد أُكرهت على إغلاق ملفّه بعد إنسحابها عنوةً من جنوب لبنان. وسيظلّ كذلك بوصفه أحد النتائج التي ترتبت على "إستراتيجية المقاومة" التي بها أصبح لبنان منيعاً. هذه الحقيقة هي برسم المجتهدين في موضوعة "الإستراتيجية الدفاعية".
وظلّ إستجرار المياه من تركيا أمراً غير ممكن بوجود الممانعة السورية. وبات الآن مستحيلاً بعد إنقلاب سياسة أنقرة مناهضةً "إسرئيل".
لم يبق إلا مياه النيل. وهذا حلمٌ قديم راود الصهاينة منذ مؤتمرهم الأوّل. ثمّ ظهرت أطماعهم على نحو عملي عام 1903 عندما بدأ هرتزل جولاته المكوكية بين إسطمبول والقاهرة ولندن لإقناع حكوماتها بقبول مشروع لجرّ مياه النيل إلى صحراء سينا والنقب. وكادت الحكومة البريطانية أن تتجاوب لكنّها عادت ورفضت المشروع لأسباب لسنا في واردها الآن.
غير أنّ المشروع المتكامل والمدروس بشكلٍ فنّي جرى عام 1974 بإشراف المهندس الإسرائيلي "اليشع كادي" بهدف نقل 1% من مياه النيل الى فلسطين المحتلة. أي ما يعادل حوالي مليار متر مكعب سنوياً.
وبعد زيارة السادات للقدس عام 1977 تقدّم الإسرائيليون بطلب تحويل الكمية المذكورة من المياه عبر حفر ثلاث أنفاق تحت قناة السويس. وبالفعل فقد أعطى الرئيس المصري إشارة البدء في حفر "ترعة السلام" عند الكيلو 25 على طريق بور سعيد – إسماعيلية. ثمّ أطلق وعده بنقل مياه النيل الى القدس فيما أسماه "مشروع زمزم الجديد". غير أنّ السادات "وكحافز للجانب الإسرائيلي" على حدّ تعبيره عرض ذلك كيما تستخدمه إسرائيل في "إعادة إسكان المستوطنين في منطقة النقب بعد إخلائهم من المستوطنات في الضفّة والقطاع".
طوي المشروع المذكور مؤقتاً لكون مسألة الإستطان تحتلً الأولويةً في إستراتيجية الكيان الصهيوني التوسعيّة لكنّ ذلك لم يمنع من تحضيره على الورق إنتظاراً للحظة المناسبة. فقد تمّ تكليف شركة (أجيب) الإيطالية لدراسة مشروع إستكمال مدّ خطّ الأنابيب لنقل المياه الى سيناء في موازاة مشروعها لمدّ خطّ الأنابيب لنقل الغاز من مصر الى إسرائيل والذي بات قائماً الآن.
كلّ هذا وغيره كثير جرى بمعرفة الحكومة المصرية، فيما إسرائيل مصممة وبعناد على الوصول الى أهدافها في مياه النيل. وبالفعل فقد أعدّت الأرض لكي تستأثر بأوراق الضغظ على مصر لتستحوذ فيما بعد على ما تريد من مياه النيل فسعت مع حليفتها أميركا على تفكيك السودان بدءً من جنوبه. بغية إيجاد حاجزٍجغرافي – سياسي يمنع القاهرة والخرطوم من إستعمال ورقة الضغط المباشر على دول المنبع اذا ما إضطرّت لذلك. وبموازاته سعت "إسرائيل" الى تمكين نفوذها في إفريقيا عبر مشاريع تنمية في مختلف القطاعات.
وبينما تكتظّ القارة الأفريقية باللاعبين من كلّ صوب فإنّ مصر ما زالت غائبة عنها، ولعلّ الفشل مع دول الحوض هو من تداعيات عدم وجود إستراتيجية للتعامل مع القارة الإفريقية. لا بلّ مع العالم ككلّ‼.
لا تكفي نظرية المؤامرة لتفسير هذا الفشل. فلقد دخلت "إسرائيل" من فجوات وتكهفّات السياسة المصرية التي تسير خلافاً للقواعد الجيواستراتيجية. حيث المجال الحيوي لمصر يبدأ من جبال طوروس شمالاً وحتّى منابع النيل جنوباً حقائق أدركها القادة الكبار الذين تناوبوا على حكم مصر من رمسيس الثاني ـ (موحّد القطرين ) ـ إلى جمال عبد الناصر مروراً بمحمد علي باشا.
أمّا القيادة المصرية فإنّها ومنذ أيّام السادات تستبعد كلّ ما بيدها من أوراق بل قدّمت بعضها مجاناً خلافاً لأيّ منطق وعقل.
لقد إعتقد السادات بأنّ( صداقة) أميركا تشكّل ضمانة لمصر. لكن فاته ومن بعده خليفته أن يتمعنّوا جيّداً في قول هنري كسنجر(صديق السادات):" لا يوجد في السياسة أصدقاء وإنّما أعداء بدرجات متفاوتة ".
(*) كاتب من لبنان