ارشيف من : 2005-2008
نيويورك: رسائل متفارقة في لعبة تجاذب معقدة
الانتقاد/ حدث في مقالة- 1128- 23 أيلول/ سبتمبر 2005
كنّا أمام مشهد سوريالي في نيويورك، هو امتداد أو تظهير للمشهد نفسه في بيروت: رئيس الجمهورية اميل لحود يغادر لبنان وهو تحت وطأة قصف داخلي وخارجي، يستهدف أمراً واحداً هو فرض نوع من الإقامة الجبرية عليه في القصر الجمهوري، وصولاً، ربما، الى تحديد عدد زواره ونوعهم. عملية الى حد ما تذكرنا بحصار رئيس السلطة الفلسطينية الراحل: ياسر عرفات، حين كان المطلوب قطع الأوكسجين السياسي عنه وصولاً الى الاجهاز السياسي عليه. من هنا، بدت زيارة رئيس الجمهورية الى نيويورك، ومن قبلها اصراره على الذهاب، هي مزيج من فعل التحدي والتجاوز لكل الضغوطات التي مورست عليه والتشبث بالحياة ـ الحياة السياسية. في هذا الاطار، كانت اللمسات الاميركية في كل ما جرى واضحة. فالذي أسس للحملات الداخلية على رئيس الجمهورية هو الموقف الاميركي بذريعة ان لحود سيحمل موقفاً سلبياً من القرار 1559. الموقف الاميركي وجد سريعاً صداه لدى قطاع سياسي له مصلحة في تسريع عملية الاجهاز السياسي على رئيس الجمهورية. خارج لعبة التجاذب هذه، لعبة الحياة والموت، بدا خطاب رئيس الجمهورية امتداداً لعزيمة الحياة السياسية الخاصة به، والتي تقف تماماً بالضد لكل ما هو اميركي، لا نغالي اذا قلنا ان هوية لحود السياسية كما وجوده السياسي في موقع رئاسة الجمهورية، تكمن تماماً في المسافة التي يرسمها عن الاملاءات والمطالب الاميركية، وبالتالي في قدرته على التحرر من الوصاية الاميركية نفسها. لقد باتت مواقف رئيس الجمهورية علامات أزمة للمشروع الاميركي في لبنان، ولذا، هو بهذا المعنى مستهدف اميركياً.
في السياق نفسه، كانت محاولات اميركية لرسم إطارٍ آخر للوضع اللبناني، ولصياغة او التشجيع على أدوار تنسجم مع المشاريع الاميركية. هنا الصورة مليئة بالدلالات: نحن ـ اي الاميركيون ـ نسبغ الشرعيات، ونحن من ينتزعها، نحن من نمنح الوكالات، ونحن من ينتزعها، بعض ما جرى في نيويورك كان يريد أن يبعث برسالة واضحة: لقد دخل لبنان العصر الاميركي. وبعض ما جرى في نيويورك هو محاولة اميركية لإعادة تظهير موازين القوى الداخلية والدولية والاقليمية من حولها، وبالتالي هو محاولة لتحديد السياق السياسي الدولي ـ الاقليمي الذي يراد للبنان الاندراج فيه، هذا السياق الذي أقل ما يقال فيه انه سياق اميركي بامتياز، ولا يُفضي الا الى عنوان واحد هو الكيان الاسرائيلي. ولذا، لم يكن غريباً ولا مفاجئاً ان لا يضم التكتل الدولي ـ الاقليمي الجديد سوى الدول التي هي على علاقة مباشرة وقوية بالكيان الاسرائيلي، أو تلك التي أخذت مؤخراً ترسل اشارات وتظهر قابليات استراتيجية لعلاقات من هذا النوع.
المفارقة الكبيرة في كل ما جرى في نيويورك انه في الوقت الذي يذهب رئيس الجمهورية اللبنانية الى الحد الأقصى في دفاعه عن خيار المقاومة، ويمارس اشتباكاً واضحاً مع الرؤى والسياسات الاميركية ذات الصلة بهذه المسألة وسواها، تتعرض وزيرة الخارجية الاميركية رايس للمقاومة بالانتقاد المبطن، حيث لم تجرؤ على التسمية المباشرة، ربما لعدم احراج رئيس الحكومة أكثر، ورئيس الحكومة لم يعلق لا سلباً ولا ايجاباً، عدم التعليق بل الرد هنا له دلالاته البالغة: لأنه سيعني أولاً نوعاً من الرضا الضمني، واذا قيل ان عدم الرد كان من مقتضيات الحكمة لأننا لا نريد اثارة الاميركي لنستطيع تمرير المساعدات الاقتصادية والمالية الى لبنان، فإن هذا التبرير خطير للغاية، لأنه يظهر استعداداً للمقايضة، وإن بدا شكلياً، لأنه يحاول مقايضة ما هو استراتيجي للبنان بما هو تكتيكي وإجرائي.
والأخطر من هذا او ذاك، أن رايس، في موقفها هذا، كانت صريحة الى النهاية في اضافة ربطٍ محكم بين ما هو اقتصادي ـ مالي، وما هو سياسي في لبنان. وبالتالي، فإن الكلام عن امكان التفكيك بينهما اميركياً، على الأقل، هو ضرب من الخيال، او التمني المستحيل، من هنا، كان طبيعياً ان تسجّل ردود فعل قوية على ما جرى في نيويورك، اذ لا يجوز ان يمر ما حدث مرور الكرام، فما لم يتم تدارك أخطاره منذ الآن، فمتى يتم، من دون أن يعني هذا ان عهدة التوضيح لا تبقى بيد رئيس مجلس الوزراء، مع الادراك التام، ان للتوضيح مفاعيل في ما سيأتي، ولا يملك قابلية إصلاح ما حدث.
مجموع هذه الاحداث، وما ترتب عليها من ردود فعل، يعيد، في الحقيقة، موضعة الاسئلة والتحديات السياسية الأساسية التي تنتظر لبنان، كما يعيد تسليط الضوء على الأخطار الرئيسية ومداخلها، ولا يعيد، هنا، إصلاح الخطأ بخطأ أكبر منه، من خلال التلويح بالعودة الى لعبة الأكثرية والأقلية، التي يدرك مطلقوها أنها لا تخدم لبنان، لكونها تشكل انقلاباً على طبيعة لبنان نفسه، وبالتالي ما هكذا تورد الإبل.
مصطفى الحاج علي
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018