ارشيف من : 2005-2008

الاستقرار الأمني في لبنان: المدخل الضروري

الاستقرار الأمني في لبنان: المدخل الضروري

الانتقاد/ حدث في مقالة- 1129- 30 ايلول/ سبتمبر 2005‏

مصطفى الحاج علي‏

جاء في الحديث المأثور: نعمتان مجهولتان: الأمن والعافية.‏

ولبنان اليوم، يفتقد بقوة هاتين النعمتين، فلا الأمن الداخلي متوافر، ولا العافية الاقتصادية والمالية، ونكاد نقول العافية الوطنية العامة، متوافرة. والعلاقة بين هاتين النعمتين وثيقة وعميقة، فالأمن شرط أساسي لتتمكن العجلة الاقتصادية والمالية من الدوران دوراناً منتظماً ومنتجاً، كما ان العافية الاقتصادية المالية، شرط ضرورة للاستقرار الداخلي، ولحصول الأمن والسلام الاجتماعي، من هنا، فإن التفكيك بين الأمرين هو ضرب من العبث الذي لن يفضي الى أي مكان، بينما الربط بينهما هو المدخل الضروري للنهوض بالبلاد. إلا أن لا هذا ولا ذاك يمكن القيام به بدون توافر الشرط الأعمق، ألا وهو التوافق السياسي. والمقصود بالتوافق السياسي هنا، ليس التوافق اللحظوي ـ العابر، ولا التوافق السلطوي، بمعنى التوافق على توزيع المواقع والأدوار السلطوية، وانما المقصود ما هو أعمق من ذلك تماماً، أي التوافق حول صياغة المسألة الوطنية في لبنان في ضوء مجمل التطورات التي يعيشها منذ صدور القرار 1559 حتى اليوم، وفي ضوء مجمل التطورات المحيطة بلبنان والمؤثرة أو المؤثر فيها. بكلمة أخرى، اذا كان لبنان يمر اليوم بالفعل في مرحلة انتقالية، فما يواجهه اللبنانيون ليس الاختلاف حول طبيعة هذه المرحلة على أهميته، وانما هو الاختلاف حول طبيعة الصورة الجديدة للبنان الجديد. ولا يخفى على أحد، ان الصراعات في لبنان وعليه ومن خلاله ليست، في أحد أبعادها الرئيسية، إلا الرحم الذي يراد اعادة تشكيل موقع لبنان ودوره في المستقبل فيه. وفي هذا الاطار، الارادات مختلفة ومتنوعة، كما هي القوى المتصارعة. ولذا، لم يكن بدعاً من القول، أو غريباً، أن يلح، مثلاً، زعيم كبير كالنائب وليد جنبلاط، على عروبة لبنان في هذه المرحلة، وعلى ضرورة الاحتفاظ بسلاح المقاومة باعتبار ان إحدى وظائفها ليست فقط حماية لبنان، وانما حماية عروبته، وعلى ضرورة ان يبقى لبنان في منأى من الاحلاف الغربية التي تقودها الولايات المتحدة، فجنبلاط يدرك تماماً، أن ثمة محاولات حثيثة لقوى داخلية وخارجية تريد استثمار عملية اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ومجمل المناخ الأمني في البلد، وتداعياتهما المختلفة، في سياق وأد المعنى العربي للبنان، ورده الى نوعٍ من الكيانية البغيضة، أو، على الأقل، أخذه، باتجاه الحياد مجدداً، الحياد السلبي المستحيل.‏

كما أن هناك الآن من يوجه نصاله تجاه الأجهزة الأمنية للبلد، ممعناً في نعيها، كما هو ممعن في نعي الدولة والحكومة ومبررات وجودها، في محاولة واضحة لملء الفراع، بدعوى الضرورة، وطفوح الكيل، بكل ما هو أجنبي، ومن ثم إكمال دورة الوصاية لتشميل أيضاً القطاع الأمني.‏

كما أن هناك، من يوجه سهام الانتقاد للحكومة، راداً عجزها أو تقصيرها الأمني، الى ما يسميه حالة الثنائية التي تتقاسمها، وتحول دون اتخاذها القرارات الحاسمة، وذلك، لهدفٍ واحدٍ: إخضاع منطق الحكم في لبنان لمنطق الأكثرية بدلاً من إخضاعه لمنطق التوافق. الخلاصة البغيضة لهذه التوجهات، تكمن في كونها لا تكتفي في استثمار المآسي الانسانية الناتجة عن الاعتلال الأمني، وبالتالي استثمار اللحم والدم والروح الانسانية في سياق لعبة التجاذب السياسي، وانما تكمن في كونها ما زالت تمارس السياسة بوصفها لعبة سلطة ومغانم، في الوقت الذي يمر فيه لبنان في مرحلة انتقالية مصيرية، هذه المرحلة التي تفرض، في ما تفرضه، ممارسة السياسة بما هي قضية وطنية عامة، تستهدف اعادة بناء الدولة والمجتمع، وبالتالي لبنان موقعاً ودوراً ينسجم مع مصالحه الوطنية والقومية الخاصة، ولا يكون، بالتالي، مطية لمآرب الآخرين.‏

ولذا، لم يكن غريباً او مفارقاً في هذا الاطار، ان نرى سياسة تجمع بين الشيء وضده: فهي من جهة تنادي بالسيادة والحرية والاستقلال، ومن جهة أخرى تفتح البلد أمام كل أنواع الوصايات الدولية، وكأن السيادة والاستقلال والحرية تعمل باتجاه واحد، ولا تعمل في اتجاه آخر، وفي حين يعلم القاصي والداني، ان لا معنى للسيادة والحرية والاستقلال الا خارج اطار الارتهان، كما أن اصحاب هذا المنطق هم أيضاً من يطالبون حرمان السيادة والاستقلال والحرية، ليس من شرط تحققها بالفعل، وانما من شرط حمايتها، اي عامل القوة الذي تجسده اليوم المقاومة.‏

وفي مطلق الأحوال، ان المقاربة السليمة للمسألة الأمنية تتمثل أولى خطواتها، بتحرير السياسة والحكم في لبنان من لعبة السلطة لمصلحة بناء الدولة الذي لا يمكن تحقيقه بدون التوافق العام على إعادة صياغة القضية الوطنية اليوم، ومكوناتها الأساسية، وبأبعادها المتنوعة: السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والأمنية، وقبلها وبعدها، موقع لبنان ودوره في ضوء كل ما يجري فيه وعبره وحوله.‏

2006-10-30