ارشيف من : 2005-2008

تحرير الحقيقة من التسييس شرط الحقيقة المحرِِّرة

تحرير الحقيقة من التسييس شرط الحقيقة المحرِِّرة

الانتقاد/ حدث في مقالة ـ العدد 1126 ـ 9 أيلول/ سبتمبر 2005‏

لعل ما يميز البراغماتية التي تشكل الأساس الفلسفي للعقل السياسي الاميركي تحديداً هو موقفها من الحقيقة. فبحسب البراغماتية الحقيقية ليست أمراً موجوداً يُبحث عنه أو يُكشف، وإنما الحقيقة هي أمر نصنعه. وثمة فارق كبير بين الحقيقة الطبيعية ـ اذا جاز التعبير ـ والحقيقة المصطنعة، فالأولى أمر معطى ولو احتجب خلف أقنعة وألغاز، ويكفي هنا الإلمام بالطريق الموصل اليها والتحلي بأعلى قدرٍ من الموضوعية، والتنزه عن الأهواء وصراعات القوى والمصالح. في هذه الحالة تقف الحقيقة في عين الشمس تنتظر من يطلبها.. هذا النوع من الحقائق لا تبدله طبيعة المواقف منه، ومهما حاول أحدنا أو بعضنا نكرانه، فهو يفرض نفسه علينا في النهاية بقوة المنطق والواقع معاً.. هذا النوع من الحقائق لا يُقهر، قد يعاند، لكن مما لا شك فيه أنه منتصر في النهاية..‏

أما النوع الآخر من الحقائق، أي النوع المصطنع، فهو ليس تعبيراً عن قوة المنطق والواقع، وإنما تعبير عن قوة القوة نفسها، وعن قوة المنفعة أو المصلحة التي تتوارى وراءه هشاشة الحقائق الطبيعية من مادة الوجود نفسها. أما هشاشة الحقائق المصطنعة فمن مادة الكلام نفسه، من مادة اللغة والصورة التي تكمن وظيفتها الأولى في قدرتها على حجب الواقع، أي الحقيقة الأصلية، وتقديم نفسها بوصفها هي الحقيقة ولا أحد سواها. من هنا، بقدر ما تضرب الحقيقة الطبيعية جذورها في قوة المنطق وواقعية الحجة نفسها، وبالتالي تضرب جذورها في العقل نفسه، فإن الحقائق المصطنعة تتوسل الغواية والتزيين سبيلاً لها، فهي ابنة الأهواء والرغبات والحس أكثر منها ابنة العقل والقيم. وهي تخاطب العين والأذن قبل أن تخاطب الفهم أو العقل. وخلاصة الحقائق المصطنعة، أنها تريد اعادة تركيب أفهامنا وعقولنا في قوالب نزواتها ورغباتها، ومن خلالها إعادة تركيب الواقع وفق رغباتها ونزواتها هي. والمصيبة هنا ان الكل يساق كما لو أنه بالفعل مساق بقدر قناعته هو وحقائقه هو.‏

هذه المقدمة على طولها تبدو ضرورية اليوم في لبنان، باعتبار أن معرفة الحقيقة في مقتل الشهيد رفيق الحريري بات يختصر مرحلة سياسية بكاملها، ويراد له أن يحدد مسار سياسي بكامله في ما هو آتٍ في الأيام. وإذا كان الجميع من دون استثناء يطلب هذه الحقيقة، ليس فقط لأنها تقود الى معرفة الجاني وسوقه الى القصاص العادل، وإنما لأن نوعاً من الحقائق كهذا يشكل بالفعل حماية أساسية واستراتيجية لحياة سياسية حرة في لبنان بعيدة عن هواجس الخوف من القتل أو الترهيب به، الذي من شأنه أن يحوّل أي بلدٍ الى معتقل كبير.‏

لكن في الوقت نفسه، المطلوب هو معرفة الحقيقة كما هي مجردة واضحة وجلية كعين الشمس، لا معرفة حقيقة مصنعة ومفروضة بقوة الاعلام وقوة المصالح وقوة الرغبات الدفينة، ما هو معلن منها، وما هو مستتر. ولذا كان الخط الفاصل الذي يميز بين الحقيقة المطلوبة، الحقيقة العقلية، والحقيقة المصنعة، هو التسييس، لأن ما من تسييس منزه عن الأغراض والمصالح، وبالتالي فإن التسييس هو اعادة تركيب للحقيقة بما يتناسب وهذه المصالح. من هنا، فإن دعوة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله الى عدم تسييس التحقيقات وعدم الذهاب الى النتائج بسرعة وفرض نتائج مسبقة للمحاكمات، كأن التحقيق اكتمل والمحاكمة أُنجزت وصدرت الأحكام ولم يبقَ إلا تعليق المشانق، هذه الدعوة لخدمة الحقيقة بالدرجة الأولى، الحقيقة التي من شأن معرفتها ان تحررنا كما يقول السيد المسيح، لا الحقيقة المعتقلة في أتون المصالح الكبرى والصغرى، التي من شأنها ان تنقلنا من سجن الى سجن، ومن واقع سيء الى واقع أسوأ. ان كل ما سبق عملية توقيف رؤساء الأجهزة الأربعة وما تبعها من تسريبات ومواقف وتفسيرات وتأويلات ومن رسم للسيناريوهات، وتحديداً لمسارات الأمور ووجهها. وأكثر من ذلك سعي البعض لتحديد عناوين المرحلة المقبلة بشكل تفصيلي، وفي ظل الغموض الذي يكتنف عملية التحقيق لاعتبارات بعضها صرف، وبعضه الآخر غير معلوم، يسيء للحقيقة أكثر مما يحسن اليها، لأنه يعيد تقديمها لا كأمرٍ مطلوب لنفسه وبذاته، وإنما كأمرٍ مطلوب لغيره، فهل هذا هو المطلوب؟‏

ولا شك في ان ما تستلزمه مجريات التحقيق من سرية وإن كانت ليست كل سرية حتى الآن، حيث تُسرب عملية منتقاة أحياناً، تسمح بتركيب سيناريو آخر لمجريات الأمور.. ولعل هنا تحديداً، قد يكون المطلوب. ولقطع الطريق على أي تلاعب بالوقائع، أن تكون التحقيقات شفافة وعلنية كما المحاكمات، لأن ما نحن بصدده ليس قضية عادية، وإنما قضية مفتوحة يراد لها أن شكل أساساً لإحداث تغيير نوعي ليس في موقع لبنان ودوره فحسب، وفي توازنات قواه وأوضاعه الداخلية، وأيضاً في موقع سوريا ودورها، ان لم تقل ـ حسب ما يُستشف من المواقف والسلوكيات الاميركية بعد تغيير طبيعة النظام فيها. ان قضية بهذا الحجم، وبهذه التداعيات المرغوب بها، لا يمكن الا ان تكون شفافة وعلنية، بل يجب ان تكون كذلك، لعل هذه المسألة وسواها من الأمور مما من شأنه أن يرسم حداً فاصلاً بين الحقيقة المحررة والحقيقة المدبرة.‏

مصطفى الحاج علي‏

2006-10-30