ارشيف من : 2005-2008

حكومة السنيورة والولادة المتعسرة:الدروس غير المستفادة

حكومة السنيورة والولادة المتعسرة:الدروس غير المستفادة

الانتقاد/ حدث في مقالة ـ العدد 1118 ـ 15 تموز/ يوليو 2005‏

بعد أن كانت حكومة السنيورة على وشك الولادة، عادت فجأة الى المربع الأول. هذه العودة إن كانت تعني شيئاً، فإنها تعني ببساطة شديدة، أن الدروس التي قيل إن رئيس الحكومة المكلف قد تعلمها خلال مواجهته لعقد التأليف، وعملية العلاقة مع القوى والأطراف السياسية، لم يُحصل منها شيئاً على الإطلاق، بل كل التغيير الذي حدث لا يعدو أكثر من إعادة نظر في التكتيكات مع الحرص الشديد في الاحتفاظ بجوهر الأمور.‏

ولا شك، أن الدرس الأول الذي كان على السنيورة ليس تعلمه فقط، وإنما حفظه، ولا سيما أنه يتحدر من تجربة في الحكم وممارسة السلطة عمرها حوالى العقد والنصف، هي أن لبنان لا يمكن أن يحكم انطلاقاً أو وفقاً لقاعدة الأغلبية والأقلية.‏

قد تصح هذه القاعدة في نظام ديموقراطي كامل، أي في نظام لا تقف حدود ديموقراطيته عند قانون أو نظام الانتخاب، وإنما هي حصيلة مخاض تطور تاريخي واجتماعي واقتصادي وسياسي وحقوقي، فضلاً عن كونها حصيلة مخاض تطور ثقافي عميق تتجاوز فيه الولاءات والانتماءات، الولاءات والانتماءات الأولية، الى الولاءات والانتماءات العليا، لا سيما منها الوطنية، وتتمظهر الدولة كإطار حقوقي وسياسي ناظم للعلاقات المتنوعة، ومعبرة عن التطلعات العامة، ولا تقف عند حدود ممارسة السلطة للسلطة نفسها. والديموقراطية هي في المحصلة النهائية الجسر الذي يربط عملية التفاعل بين المجتمع والسلطة من جهة، وبين المجتمع والدولة من جهة أخرى.‏

هذا في المجتمعات والدول التي خاضت هكذا مخاض تطوري، أما في المجتمعات التي ما زالت الولاءات والانتماءات الأولية من عائلية وعشائرية وقبلية ومذهبية وطائفية كما هو حال لبنان، فإن أي محاولة لبناء الدولة خارج التوافق الاجتماعي العام، وأي محاولة لممارسة السلطة خارج ـ أيضاً ـ القاعدة التوافقية، لن يكون لها إلا معنى واحد: وجود فئة حاكمة ومهيمنة، وأخرى محكومة ومهمشة، وبالتالي سيادة منطق الغالب والمغلوب، القاهر والمقهور. هذا المنطق سيعني، كما في التجربة اللبنانية المتكررة، الاحتفاظ بأهم قانون لتكرار الأزمات المفصلية، المهددة للاستقرار العام، والمشرعة الأبواب على مداها للتدخل الخارجي.‏

من نافل القول، ومن المؤسف، أن الحقيقة الكبرى التي أكدتها الانتخابات النيابية الأخيرة، هي حقيقة انغراس البناء الاجتماعي والسياسي في لبنان في الطائفية حتى العظم. مع هكذا حقيقة لا ينفع منطق الأكثرية العددية، ولا حتى الطوائفية، ما ينفع هو منطق التوافق العام، والتفاهم العام، حول القضايا المشتركة، وآليات معالجتها، إضافة الى التوافق العام على القضايا الخلافية، ووضع الأطر السلمية الناظمة لها ولكيفية معالجتها.‏

خارج هذه القاعدة العامة، لن تكون إلا حروب الطوائف ضد بعضها البعض، التي لن تكون بدورها إلا استعادة مدمرة لمنطق الحروب البينية، التي تجد اليوم من هو مستعد لتغذيتها وتمويلها، ولا سيما أن مناخاتها العامة مهيئة، بدءاً من العراق ومروراً بكل بلد عربي، ومن خلفها جميعاً نظرية جهنمية اسمها: "الفوضى البناءة".‏

وما يزيد الحاجة للخروج من منطق حكم الأكثرية والأقلية، هذا إذا صح ادعاء من يدعي أنه يملك الأكثرية بالفعل، هو الزمن السياسي الملتبس الذي تمر فيه، والذي تكثر فيه الشكوك، وتكبر فيه الظنون، تغذيها أطماع الأوصياء الجدد، وأهدافهم المعلنة والمستترة منها، وما يصدر من مواقف من هذه الجهة أو تلك، لا تكفي لبث الاطمئنان في النفوس، ونزع علامات الاستفهام من الرؤوس. في زمن من هذا النوع، يصبح التوافق العام، والتفاهم العام، هو الأرضية الأساس التي يرتفع عليها بناء الثقة المتبادل، واحتواء الشكوك والظنون، التي هي أصل لواقح الفتن، في حين أن أي طموح آخر، لن يكون إلا استدعاءً إضافياً للمزيد من الشكوك والظنون، وتعميقاً لما هو موجود.‏

ان الاقتناع بأن لبنان لا يحكم بمنطق الأكثرية والأقلية، وبالتالي، لا يحكم إلا على قاعدة التوافق والتفاهم، هو الطريق الأقصر لبلوغ سفينة التأليف شاطئ الولادة السليمة، وأي طريق آخر، لن يكون إلا إصراراً، ولو عن غير قصد، لافتعال أزمة حكم وحكومة، لن يفيد منها إلا أعداء لبنان.‏

مصطفى الحاج علي‏

2006-10-30