ارشيف من : 2005-2008

حدث في مقالة / حكومة السنيورة العتيدة: المداخل الضرورية للنجاح

حدث في مقالة / حكومة السنيورة العتيدة: المداخل الضرورية للنجاح

العدد1117 ـ 8 تموز/يوليو 2005‏

في بلدٍ كلبنان تستخدم اللغة كأداة لحجب الواقع بامتياز، وذلك من قبل مراكز قوى قائمة أو مستحدثة. اللغة هناك تعود محملة بالواقع ولا تصبح طريقاً اليه، بقدر ما تكون وسيلة الى تشييد عالمٍ افتراضي يحاكي مصالح القوى المهيمنة او الساعية الى الهيمنة، هذا العالم المطلوب سجن الآخرين فيه، أو تقييدهم اليه بوصفه عالم مصالحهم هم لا عالم مصالح القوى المستئثرة أو الساعية للاستئثار بكل ما حواليها.‏

في هذا النوع من العوالم تصبح الصور أدوات خداع وتضليل وتمويه، تصبح طريقاً الى استنتاجات زائفة لا صلة لها بالواقع الصلب والحديدي، وهنا تحديداً تتحول السياسة الى لعبة نفاق مركبة، والى وسيلة الى اقامة عالمين لا صلة فعلية بينهما: عالم الواقع الصلب، وعالم الزيف المتخيل، لذا تصبح السياسة بلا جدوى ولا معنى، تصبح مجرد وسيلة للسلطة وللعبة السلطة، لا وسيلة لحل مشاكل المجتمع وبناء الدولة، وتعاطي الشأن العام بما هو شأن عام، شرطه الضروري الخروج من بوتقة الخاص الى المصالح العليا العامة.‏

هذه المقدمة يفرضها ليس ما عاشه لبنان في المرحلة الأخيرة فقط، وانما مساره السياسي الطويل، وان ما يحدث يشكل مادة دسمة لما تقدم:‏

ـ لقد خرج لبنان من انتخاباته النيابية الأخيرة مُطيَّفاً الى أقصى الحدود. لا يعني هذا أنه لم يكن طائفياً من قبل، بل يعني بالدرجة الأولى ان حدود التمفصل الطائفي للتركيبة الاجتماعية والسياسية في لبنان عادت لتؤكد نفسها على نحو صلب وعنيد.‏

وفي هذا الخضم أيضاً جرى كلام كبير وكثير عن ضرورة اجراء مصالحة وطنية شاملة، الأمر الذي يعني اعترافاً غير مباشر ان مثل هذه المصالحة لم تحدث ولم تتحقق في عالم الواقع منذ تطبيق الطائف حتى الآن.‏

باختصار، نحن أمام مشكلتين وطنيتين كبيرتين: الأولى الانقسام الطائفي في لبنان، والثانية المصالحة الوطنية.‏

ـ ان السياق الذي أجريت فيه الانتخابات النيابية الأخيرة، والنتائج العامة التي أسفرت عنها، كشفت، في الحقيقة، عن نتائج مركبة لا يمكن مقاربتها على نحو تبسيطي كما يفعل البعض عن عمد، ولأغراض معروفة: هناك من فاز بالانتخابات شعبياً ونيابياً، بمعنى أن المقاعد النيابية التي فاز بها لم تكن مفصولة عن واقعه الشعبي، ولذلك يستطيع الإدعاء بأن تمثيله النيابي هو أكثر من واقعي. وهناك من فاز نيابياً لكن ليس على النحو الذي يحاكي واقع تمثيله الشعبي، بمعنى أن ما فاز به من مقاعد هو أقل فعلياً مما يمثل شعبياً، وبالتالي لا يجوز معاملته سياسياً فقط وفق ما فاز به، لأن النتيجة الفعلية المباشرة، ستكون ليس افتئاتاً على حقه الخاص، بقدر ما هي افتئات على الشريحة الشعبية التي يمثلها.‏

وهناك من فاز بمقاعد كثيرة، لكن لا تمثل حقيقة الواقع الشعبي لها، خصوصاً اذا ما أخذنا بعين الاعتبار، المناخات القهرية التي سيق بها بعض الناس الى الانتخابات، وهي مناخات اشتباهية الى أقصى الحدود.‏

ـ وراء هذا الواقع حقيقة أخرى لا يمكن إنكارها، وهي حقيقة تحيط بمجمل هذا الواقع محاولة اعادة تكييف مواقع بعض مفرداته بما ينسجم مع مصالحها، بمعزل عما يستلزم الوصول الى هذه المصالح من القفز فوق بعض المشكلات، أو تزييف حقيقة التوازنات، وصناعة مصالح وهمية للبنانيين يمكن دمجها في سياق مصالحها الخاصة، ومحاولة وضع مشاكل لبنان المتنوعة في سياق تناقضي مع قضاياه الكبيرة، والإيهام بأن هذه المشاكل لا يمكن حلها إلا عن طريق التضحية بهذه القضايا، بمعنى آخر دفع اللبنانيين الى استبدال ما هو أدنى بما هو خير، من دون أن يبدو حتى ما هو أدنى أنه سيكون فعلاً في اليد، اذ ان الغواية هنا تبقى فعل استدراج الى اهدافٍ هي مجرد سراب بقيعة.‏

هنا تحديداً يبرز التحالف الاميركي ـ الفرنسي ـ الاسرائيلي، ويبرز القرار 1559، و"الأجندة" الدولية المطلوب فرضها على لبنان، والتي زاد الالحاح عليها مؤخراً على نحوٍ يثير الشك والريبة أكثر من أي وقت مضى.‏

مجمل ما تقدم، كيف يتم التعامل معه وانطلاقاً من مناسبة الشروع في تشكيل حكومة جديدة:‏

أولاً: ثمة ما يشبه الاجماع تشكل حول تسمية الوزير السنيورة رئيساً مكلفاً لتشكيل حكومة جديدة (126 نائباً من أصل 128). النتيجة المنطقية لهكذا اجماع ان يكون تشكيل الحكومة أمراً سلساً وخالياً من أي عقد فعلية، لكن، وحتى كتابة هذا المقال، ما زال مسار التكليف مفتوحاً على عُقدٍ شتى، وعلى احتمالات أزمة حكم، الأمر الذي يعني تماماً ان الاجماع هنا هو اجماع تقني في أحسن الأحوال، أو قل اجماعاً عددياً، أكثر منه اجماعاً سياسياً، وهو نوع من التسليم الاضطراري لواقع ما أفرزته الانتخابات النيابية من توازنات في المجلس النيابي الجديد، من دون أن يعني ذلك استسلاماً مطلقاً، وبالتالي استسلاماً سياسياً لهذه التوازنات.‏

ثانياً: ان العنوان الذي أعطي للحكومة الجديدة هو "الوحدة الوطنية"، هذا العنوان الذي سرعان ما تهافت عند أول اصطدام بحسابات مصالح الأطراف، هذا ما بدا لأول وهلة، لكن الحقيقة أن هذا العنوان لا يحمل في الأصل أي حقيقة، لأنه يفترض ابتداءً أن هناك وحدة وطنية قد تحققت في أرض الواقع يجري عكسها في حكومة سياسية، بينما العكس هو الصحيح، فلا الواقع هو واقع وحدوي، ولا الحكومة هي حكومة وحدة وطنية، وإنما هي حكومة في أحسن الأحوال، وفي حال تحققها، عبارة عن كونفدرالية حسابات وتقديرات ومصالح فيها ما هو مشترك، وفيها ما هو متباين، وبينهما خيال وهي المصالح الاسرائيلية في لبنان، الى التحالف الاميركي ـ الفرنسي الذي يسرح بين النقاط والتفاصيل وغيرها.‏

ـ ان اخضاع تشكيل الحكومة لمعيار الأغلبية والأقلية هو ليس أكثر من استخدام فظّ لتمويهات اللغة لتبرير فرض وقائع ومعادلات، ذلك ان استخدام مفردات من قبيل الأغلبية والاقلية يصلح في بلدٍ أنجز وحدته الوطنية بالفعل، وصاغ حياته السياسية على خلفية صراع وتنافس أحزاب وبرامج سياسية، أما في بلد كلبنان فلا معنى للأغلبية والأكثرية الا معنى التسلط والقهر والخروج على معنى التوافق الذي يفرضه واقع الاجتماع السياسي ـ الطوائفي في لبنان، والذي بدوره لن يكون الا حاضنة مستمرة لتفريخ الأزمات والمشاكل.‏

ـ من الواضح، ان الخلاف حول الوزارات السيادية ليس سببه داخلياً، بقدر ما يمكن ان يُرى فيه أصابع خارجية. والأسباب الداخلية لكل طرف هي أسباب رمزية في الصميم، لما تعنيه من دلالات تخص مفردات "الأجندة" التي من المطلوب ان تحكم لبنان في المرحلة المقبلة، فإذا كان مفهوماً مثلاً تمسك تيار الحريري بوزارة العدلية، فهو مفهوم، بل يجب أن يكون مفهوماً أكثر بتمسك تحالف أمل ـ حزب الله بوزارة الخارجية، وهو تمسك شديد الصلة بالمواجهة مع القرار 1559 ومستلزماته المتنوعة.‏

بناءً على ما تقدم، واذا ما أريد فعلاً ، أن تكون الحكومة القادمة، خطوة تأسيسية أولى لخروج لبنان من أزماته، وتحصينه في وجه ما ينتظره من تهديدات وأخطار ورياح خارجية غير مؤاتية، لا بد من:‏

أولاً: الانصياع لقوة الواقع في لبنان، والإنصات اليه بما هو عليه بالفعل لوعي حقيقة مشاكله، وحقيقة توازناته المتنوعة، وبالتالي اعادة شبك السياسي بالاجتماعي على نحو واقعي لا على نحو متخيل وافتراضي.‏

ثانياً: الإقرار مرة أخرى بأن لبنان، ومن الآن، وحتى الخروج من الحالة الطائفية ـ السياسية الى الحالة الوطنية، لا يمكن أن يحكم الا بالتوافق العام، بما يعنيه التوافق في الاتفاق على القواسم المشتركة وآليات تحقيقها، ومن تنظيم وتفاهم على نقاط الخلاف، والبحث عن آليات لمعالجتها في ضوء معايير يتم الاتفاق عليها.‏

ثالثاً: توحيد الارادة الوطنية في وجه الخارج ومطالبه الخاصة بأمور ذات شأن سياسي لبناني حتى ولو كان ما يطالب به هذا الخارج يحظى بموافقة البعض، فما يجب ان يحكم التوافق على هذه الأمور هو مصلحة لبنان العليا، ومصلحة اللبنانيين العليا، بعد اتخاذ قرار حاسم ونهائي بأنها شأن لبناني وطني يتم حله عن طريق الحوار البناء والايجابي.‏

ان اي مداخل اخرى لتشكيل حكومة جديدة في لبنان لن تكون أكثر من تكرار لنسخ جرى استهلاكها من قبل، وتضييع لفرص حقيقية غير قابلة للاستفادة وهي، بالتالي، ستكون بتناقضات صارخة تفتح الأوضاع في لبنان على أزمات في ما بين أهل الحكم أنفسهم، وفي ما بينهم وبين المجتمع أيضاً.‏

مصطفى الحاج علي‏

2006-10-30