ارشيف من : 2005-2008
استرجاع غزة: انجاز في سياق صراع مستمر
الانتقاد/ملف ـالعدد1123ـ19آب/أغسطس2005
هل الانسحاب الاسرائيلي من غزة هو خطوة في اطار معالجة الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، أم أنه خطوة في اطار ادارة هذا الصراع؟
ثمة تمنيات دولية وعربية وحتى عند بعض الفلسطينيين لا سيما السلطة الفلسطينية، أن يكون الانسحاب خطوة في اطار الحل، لا ادارة الصراع. لكن الجميع يعرف في الآن نفسه أن شارون الذي يساوي بين مستوطنة نتساريم وتل أبيب، لم يقدم على ما أقدم عليه، لأنه يتطلع الى علاجٍ نهائي للقضية الفلسطينية، بل ان كل مواقفه المعلنة والرسمية تؤكد عكس ذلك تماماً.
فالتخلي عن حساب صغير من المستوطنات فقد أي قيمة استراتيجية في ظل مراجعة ليست قليلة لكيفية النظر الى أرض الكيان الاسرائيلي، وهو عبارة في الحقيقة عن نقل حساب من مصرف الى مصرف، وتحديداً من غزة الى الضفة الغربية حيث العمل جارٍ على قدم وساق لتعزيز الكتل الاستيطانية الكبرى هناك، وبضمان اميركي مباشر، وبسقف لن يعرف أي حدود، ومن غزة أيضاً الى القدس الشرقية حيث العمل جارٍ وبكثافة لإحداث تغيير حاسم في واقعها الديموغرافي لمصلحة الاستيطان الاسرائيلي، وفي سياق تحطيم حلم بعض أنصار التسوية من الفلسطينيين ان تكون هي عاصمة الدولة الفلسطينية الموعودة.
في خلاصة الأمر ان شارون أقام ثلاثة خطوط دفاعية أمام خطوة الانسحاب من غزة، هي عبارة عن لاءات ثلاث: لا للتخلي عن الاستيطان في الضفة الغربية. لا للتخلي عن شرقي القدس، ولا لإعادة النظر في الجدار الفاصل، وهو بذلك، انما يبعث برسالة واضحة لمن يهمه الأمر، ان الانسحاب من غزة ليس أكثر من اشعار اسرائيلي بأن لا تسوية نهائية في الأفق على الأقل لعقد، ان لم يكن أكثر من الزمن، ماذا يترك هذا من خيارات للشعب الفلسطيني، ولا سيما ان غزة تتهيأ لاختبار علاقات بين مختلف قواها وشرائحها، الجديد فيه هو الظرف الذي يتم فيه.
من نافل القول، ان الدول الغربية عموماً والولايات المتحدة تحديداً، تعمل منذ مدة، على حصر الطريق الى الوعد ـ مجرد الوعد ـ الى قيام دويلة فلسطينية يقوم الاسرائيلي بصياغتها صياغة كاريكاتيرية تهزأ بنضالات الشعب الفلسطيني وتضحياته، بتنفيذ جملة مطالب وإملاءات: وقف المقاومة، حصر السلاح بيد السلطة (شبيه بما يطالَب به لبنان حالياً)، مكافحة الفساد، الشفافية في الانفاق وممارسة السلطة، ممارسة سلطة القانون، جذب الاستثمارات، تحريك عجلة الاقتصاد والمساعدات المالية، محاربة ثقافة المقاومة، والحض على نشر ثقافة الانصياع.. الخ.
اللافت في هذه المطالب، انها تتوجه الى الشعب الفلسطيني، وكأنه بات لديه دولة كاملة المواصفات، وصاحبة سيادة حقيقية على أرض هي محررة بالفعل، في حين ان العكس هو الصحيح، والحقيقة، هي ان مجمل هذه المطالب ليست أكثر من قنابل صوتية، وإثارة دخان كثيف لحجب ما هو مطلوب استثناءً: وقف المقاومة، وحصر خيار الشعب الفلسطيني في طريق واحد هو الطريق الديبلوماسي.
من هنا، لا يبدو النقاش الذي سبق الانسحاب من غزة، ويرافقه، عبثياً، والمتعلق بالصيغة التي يراد لـ"غزة" ان تكون عليها في المرحلة المقبلة: هانوي، ام هونغ كونغ (ايضاً يذكرنا بما كان يثار في لبنان في مطلع التسعينات، حيث كانت تطرح هذه الثنائية في سياق محاولات اسقاط خيارات المقاومة بقوة اغراء النموذج الاقتصادي الهونغ كونغي).
ان وضعاً معقداً كالوضع الفلسطيني من الخطأ المميت اختزاله في ثنائيات حدية من هذا النوع: اما أو، وبالتالي جر الوضع الفلسطيني الى نوع من التناقضات الصراعية التي من شأنها الاطاحة بكل المنجزات، واعادة الأمور الى الوراء لمصلحة العدو الاسرائيلي.
ومما لا شك فيه، ان القضية الفلسطينية هي في التعريف والماهية والواقع التاريخي قضية احتلال، بل أكثر من قضية احتلال، هي قضية استعمار اقتلاعي بكل ما في الكلمة من معنى، وبالتالي فإن محاولة اعادة صياغة القضية الفلسطينية بوصفها قضية اجتماعية ـ اقتصادية، وتصوير الشعب الفلسطيني وكأنه شعب يبحث عن دور ووظيفة اقتصادية ـ مالية وخدماتية في المنطقة، هو بمثابة تزوير كامل لهذه القضية، لا سيما في ضوء ما سوف تذهب اليه الأمور اسرائيلياً عقب الانسحاب.
في هذا الاطار، فإن التأكيد على ان الاندحار الاسرائيلي هو انجاز لكفاح الشعب الفلسطيني ولمنطق المقاومة، يصبح له معناه الكامل، لجهة اعادة تأطير المرحلة المقبلة نحو استمرار خيار المقاومة كخيار، على الأقل، أساسي، بدلاً من تأطير مجمل الواقع الفلسطيني الى خيار لا يأتي بثمنه، لا سيما في ظل توازنات القوة التي تحكم الأوضاع في المنطقة.
ما تقدم لا يلغي ضرورة الاهتمام بمختلف احتياجات الشعب الفلسطيني الأخرى، وانما ما يريد تأكيده هو ضرورة وضع الأمور في نصابها الصحيح، بحيث يصبح كل خيار في موقعه الذي له، لا سيما خيار المقاومة، وإلا لأصبحنا بالفعل أمام غزة أولاً وأخيراً.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018