ارشيف من : 2005-2008

ما بعد تحرير غزة: تعدد رؤى والمطلوب أمر واحد

ما بعد تحرير غزة: تعدد رؤى والمطلوب أمر واحد

الانتقاد/ حدث في مقالة ـ العدد 1124 ـ 26/8/2005‏‏

بالرغم من انجاز عملية الانسحاب من غزة بعقبات ميدانية أقل مما كان متوقعاً، وبوقت أسرع من البرنامج المحدد، ومن ثم محاولة كل طرف أن يقدم صورة لما جرى مختلفة نسبياً أو كلياً مع صورة الطرف الآخر، ذلك أن الجانب الاسرائيلي معني بإظهار الخطوة في اطار من المشهد الدراماتيكي، وذلك امعاناً في تضخيم كلفة ما حدث انسانياً، وكأن الذي جرى هو عملية اقتلاع لبشر من أرض هي من أخص حقوقهم، لا عملية تصحيح صغيرة وجزئية لوضع خاطئ، ولواقع مغروس بالخطيئة حتى العظم، وكل ذلك لتكبير الثمن المطلوب، ولتشييد حاجز نفسي وأخلاقي يحمي الحاجز السياسي ويدعمه في مواجهة مطالب أخرى في المستقبل من الطبيعة نفسها. وأما الجانب الفلسطيني فمعني بدوره أن يقدم رؤيته لما جرى، وان كانت المفارقة هنا، ان الصورة لم تكن موحدة: فالسلطة أخذها الحياء لدرجة اختطاف أي معالم من معالم البهجة عن وجهها، وأكثر من ذلك، وجدت نفسها، تقدم الشكر لشارون على خطوته الجريئة، وكأن ما أقدم عليه، انما أقدم عليه من كيسه، في حين كان الشكر الأوجب، والأحصر، يجب أن يكون للشعب الفلسطيني ولمقاومته البطلة.‏‏

وفي مطلق الأحوال، ما جرى، لا يمكن عزله عمّا سيجري، واذا كانت خطوة الانسحاب قد تمت، فإن ما بعدها يبقى هو الأهم، حيث الرهانات والحسابات تبدو متباينة الى أقصى الحدود، الا ان الخيارات يجب أن لا تكون صعبة بالنسبة للشعب الفلسطيني، ذلك ان وضوح الخيارات الاسرائيلية من شأنه أن يشكل الميزان الدقيق لوجهة الخيارات الفلسطينية نفسها، وفي ما يلي بعض الملاحظات:‏‏

أولاً: لا شك، ان مرحلة ما بعد الانسحاب من غزة هي غيرها ما قبلها، ولا شك، أيضاً، ان الشعب الفلسطيني بكل تلاوينه معني بتجيير هذه الخطوة لمصلحته، لا سيما في سياق البرهنة على قدرته على حكم نفسه، واعادة بناء مقومات حياته وصموده، وتسجيل تجربة علاقات متوازنة ومحكومة بسقف وطني واضح، هذا النجاح اذا كان مطلوباً أولاً لمصلحة الشعب الفلسطيني، فإنه مطلوب بالعرض أيضاً لاحباط رهانات شارون، هذه الرهانات التي لا تريد لهذه التجربة الفلسطينية الحديثة ان تنجح بالكامل، كما لا تريد لها ان تفشل بالكامل، لأن لكل منها تداعياتها التي لا يستطيع تحمل اثمانها: النجاح سيعني المزيد من الضغط على شارون للاقدام على خطوات اضافية، والفشل المطلق سيعني حتمية العودة الى احتلال غزة التي لم يصدق كيف خرج منها. ولذا، فالوضع المثالي بالنسبة لشارون هو أن تبقى الأوضاع داخل غزة مشدودة الى التوتر وعدم الاستقرار والخلافات الداخلية، ولا سبيل لافشال هذا الهدف أكثر من توافر اطار ديموقراطي حقيقي يوفر المدخل لشراكة فعلية في القرار السياسي وممارسة السلطة لكل الأطراف الفلسطينية، وهذا يقع في مسؤولية السلطة بالدرجة الاولى.‏‏

ثانياً: ان ما يجب التركيز عليه فلسطينياً هو استراتيجية شارون التي من خلالها ينظر الى عملية الانسحاب من غزة، والتي بموجبها يتحمل عاصفة من الانتقادات اليمينية التي وصلت الى حد تهديده بالاعدام السياسي. فشارون يرى الى الانسحاب بوصفه خطوة أخيرة. وهو ينتهي تقريباً الى ما يشبه مشروع "آلون"، وهو ضم الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية الى الكيان الاسرائيلي، وترك ما يقرب من 42% من مساحة الضفة لتقيم عليه السلطة، نوعاً من الحكم الذاتي يمكن لها ان تسميه دولة.‏‏

ثالثاً: ان الرهان على الضغوط الدولية لا يبدو في محله لأكثر من اعتبار، فالذين يركزون على "خريطة الطريق" لا يملكون الا الكلام، ويفتقدون الى الأظافر المطلوبة لفرضها. والذين يملكون الأظافر الحقيقية بالنسبة للاسرائيلي وهم الاميركيون، فهم في وادٍ آخر يهيمون. فبوش صاحب "رؤية الدولتين" يمنح شارون ثمناً كبيراً مقابل انسحابه من غزة، تعهداً اميركياً بدعم ضم المستوطنات في الضفة، وبرفض اعتبار العودة الى حدود عام 1967 حتمية أو حتى‏"واقعية". كما يسدل الستار على حق العودة للاجئين الى الكيان الاسرائيلي.‏‏

رابعاً: وسط هذا الواقع، هل يجوز بعد أن تتباين الحسابات والرهانات الفلسطينية، أم يجب أن تكون واضحة ومتكاملة الى أقصى الحدود.‏‏

من الواضح، أن ما تقدم ليس اجتهاداً سياسياً، وانما هو حقائق واقعية معلومة لدى الجميع. ان هكذا حقائق لا تنطق الا بمعانٍ واحدة: أولها، ان الرهان على التفاوض، واللعبة الديبلوماسية، والضغوط الدولية، لن تكون أكثر من تمارين في العبث السياسي المجرد، لا نقول ذلك، لنقلل من أهمية العمل الديبلوماسي، بل لنؤكد أمراً اضافياً هو أن أي عمل ديبلوماسي لا يمتلك أوراق قوة في يده لن يكون الا مجرد تظاهرات خطابية لا تغني ولا تسمن من جوع. ثانياً، ان المقاومة هي عامل القوة المركزي الذي يملكه الشعب الفلسطيني، وبدونه لا تضيع الحقوق فحسب، وإنما تفقد القضية الفلسطينية معناها الحقيقي والتاريخي والايديولوجي، اي بوصفها قضية احتلال، لا قضية تنازع على ملكية يكفي الرجوع فيها الى احدى المحاكم لحلها. وهذا العامل ـ اي عامل المقاومة ـ لا يمكن أن يأخذ كامل أبعاده وتفتح كامل قوته، ما لم يبق خياراً للشعب الفلسطيني كل الشعب الفلسطيني. ولعل هنا، المطلوب من السلطة الفلسطينية ان تعيد تعريف نفسها مجدداً، بوصفها حركة تحرر وطني قبل أي شيء آخر، وان اللباس المبكر لثوب السلطة، هو بمثابة جنوح بعربة القضية الفلسطينية عن سكتها الحقيقية، ولعل هنا تحديداً، يكمن مأزق أوسلو، والسلطة التي انبثقت عنه، وما تولّد عنه أيضاً من تناقضات تشق الساحة الفلسطينية عمودياً، بحيث يبدو البحث مطلوباً باستمرار عن نقاط توازن دقيقة وصعبة بين خيار السلطة وخيار المقاومة.‏‏

واذا كانت السلطة اليوم قد باتت أمراً واقعاً فلا شيء يمنع في ان تضع لنفسها سقفاً سياسياً ووطنياً جامعاً، هو ان تكون سلطة في خدمة مشروع تحرري وطني، قبل ان تكون سلطة في خدمة أي مشروع آخر، ولعل هذا ما يشكل المدخل الأساس لايجاد ائتلاف وطني وشراكة حقيقية تجمع كل القوى والخيارات.‏‏

مصطفى الحاج علي‏‏

2006-10-30