ارشيف من : 2005-2008

الاندحار الصهيوني في غزة.. إنجاز كبير ويجب أن لا يكون الأخير

الاندحار الصهيوني في غزة.. إنجاز كبير ويجب أن لا يكون الأخير

الانتقاد/حدث في مقالة ـ العدد 1122 ـ 12 آب/أغسطس 2005‏‏

الاندحار الاسرائيلي عن غزة انجاز للشعب الفلسطيني ومقاومته، ولا يمكن التقليل من شأنه لاعتبارات عدة أبرزها:‏‏

أولاً: ان هذا الاندحار ما كان ليكون لولا المقاومة الفلسطينية وانتفاضة الشعب الفلسطيني وقدرته الفائضة على تحمل التضحيات، ايماناً بقضيته وعدالتها. فالمقاومة الفلسطينية استطاعت أن تشق طريقها في أصعب الظروف، وأعقد المعادلات، الداخلية والاقليمية والدولية، وأن تتغلب على كل اجراءات العدو الأمنية والعسكرية من قتل وتصفيات وملاحقات واعتقالات وتقطيع أوصال للمناطق وتحويلها الى أقفاص معزولة، وضغوط نفسية ومعنوية تنهض على ما يعرف باستراتيجية اليأس وصولاً الى ادخال الهزيمة الى العقل والوعي والارادة الفلسطينية. وبالرغم من هذا كله استمرت المقاومة مطورة من أساليبها وتكتيكاتها وقدراتها المتنوعة، ملحقة خسائر بالعدو ليست بالقليلة، ما جعل كلفة الاحتلال كبيرة دفع ثمنها في أمنه واقتصاده، وفي بنيته الاجتماعية والنفسية انقساماً وخوفاً.. الخ.‏‏

ثانياً: ان هذا الاندحار على حجمه الصغير نسبياً، الا أنه يشكل ضربة كبيرة للمشروع الصهيوني القائم على الاستيطان، وعلى اعتبار أرض فلسطين، كل أرض فلسطين، أرضاً يهودية يحق لليهودي استيطانها، ولو على حساب شعبٍ بكامله، فلأول مرة نشهد انكساراً في هذا المشروع أخذ يعبر عن نفسه في صورة صراعات وانقسامات سياسية واجتماعية وإيديولوجية داخلية تقف في عمومها على أرض اليمين الصهيوني المتشدد، وتحديداً بين ما يعرف اليوم بمنظمات الاستيطان الأساسية والحكومة الاسرائيلية بزعامة ارييل شارون زعيم الليكود، ورئيس الحكومة، الذي طالما وصف بأنه أب الاستيطان اليهودي، هذا الانقسام الذي دفع الكثير من الكتّاب والمفكرين والسياسيين والاعلاميين الاسرائيليين الى دق ناقوس الخطر من أن يؤسس لحرب أهلية داخلية، واذا كان هذا التحذير فيه شيء من المبالغة، وله قابلية الاستثمار والتوظيف السياسي، الا أنه، في نفس الوقت، يشكل مؤشراً كافياً على حجم المخاوف القائمة أو التي يمكن أن تترتب على خطوة الاندحار من غزة.‏‏

في مقابل هذه الاعتبارات الأساسية ثمة الكثير يحتاج الى تنبه شديد أيضاً، أبرزه التالي:‏‏

أولاً: هناك حرص اسرائيلي كبير ودؤوب على تحويل هذا الانجاز الفلسطيني الى انجاز مفخخ، بمعنى تحويله من مناسبة للاحتفال والاقدام نحو المزيد من الخطوات الى الأمام بالنسبة للشعب الفلسطيني، الى مناسبة لتفجير الصراعات الفلسطينية ـ الفلسطينية، لا سيما بين السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة.‏‏

ثانياً: ثمة حرص شاروني أيضاً ليس على إدراج هذا الانسحاب في سياق ما يعرف بـ"خريطة الطريق"، وبالتالي، تحويله الى خطوة في مسار سياسي وأمني ما، بل على العكس من ذلك تماماً، فشارون يريد من الانسحاب احياءًَ لفكرة غزة أولاً وأخيراً، بحيث يبدو سقف الكيان الفلسطيني المزمع انشاؤه هو غزة نفسها التي تبقى سماؤها ومياهها الاقليمية قيد الاعتقال الاسرائيلي، اضافة الى حرمانها من أي تواصل جغرافي حقيقي مع الضفة الغربية، فشارون يريد الاجهاز نهائياً على مكتسبات السلطة ـ اذا صح تسميتها مكتسبات ـ من اتفاقيات مدريد وأوسلو من جهة، ومن جهة أخرى، الابقاء على معظم الضفة تحت الهيمنة الاسرائيلية، وفي حالة من التقطيع الجغرافي لأوصالها، ما يحولها الى اقفاص وزنازين لا ترتبط ببعضها الا عبر الحواجز الأمنية لجيش العدو الاسرائيلي، واطلاق حركة استيطان كبيرة في الضفة أيضاً لا سيما في الكتل الاستيطانية الكبيرة الموجودة، اضافة الى القدس الشرقية التي يبدو أنها ستتحول في المرحلة المقبلة الى أكثر المراكز اشتعالاً بفعل التناقضات التي ستشهدها بين سكانها الفلسطينيين الفعليين والمستوطنين الصهاينة الوافدين.‏‏

باختصار، يبدو واضحاً أن شارون، انما أراد التخلص من العبء الديموغرافي لغزة، التي يعتبر انها لا تتمتع بميزات استراتيجية كافية تؤهلها للاحتفاظ بها، وذلك في مقابل الميزات الاخرى، التي يمكن الحصول عليها من الانسحاب.‏‏

ثالثاً: لا يكتفي شارون بالكلفة السابقة للانسحاب، انما يريد من خلال هذه الخطوة انجاز جملة مسائل مهمة:‏‏

أ ـ اعادة فتح العالم العربي أمام الحركة الاسرائيلية من ديبلوماسية وسواها، وذلك بضغط اميركي مباشر، تستند الى الطواعية التي تظهرها العديد من الدول العربية سواء في الخليج أو في الشمال الافريقي.‏‏

ب ـ اعادة ترميم علاقة الكيان الاسرائيلي بالعديد من الدول التي ساءت العلاقات معها، وفي هذا الاطار يمكن إدراج التقارب الجديد الفرنسي ـ الاسرائيلي.‏‏

ج ـ اعادة ترميم العلاقة مع الرأي العام الدولي، حيث إن خطوة الانسحاب يسعى الكيان الاسرائيلي الى تقديم نفسه من خلالها بصورة الحريص على الهدوء، وعلى احراز تقدم في المسار السياسي.‏‏

رابعاً: من جهتها، تحرص الادارة الاميركية على مواكبة هذه الخطوة بالكثير من العناية، رغبة منها في الحصول على انجاز ما في الشرق الأوسط بعد اخفاقها في العراق، وعودة التعثر لحركتها في أفغانستان، وخيبة حساباتها في لبنان وإيران.‏‏

فإدارة بوش باتت تبحث عن انجاز مهما كان بسيطاً لتعمل على تكبيره، وخصوصاً أن تداعيات اخفاقاتها في المنطقة اخذت تتردد اصداؤها في داخل الولايات المتحدة بقوة. من هنا، فهي تحرص على حماية هذا الانجاز عبر ضغوط متنوعة الأهداف والمقاصد تكاد تشمل كل بلدان المنطقة.‏‏

لا شك، ان الاندحار عن غزة انجاز كبير، لكن يجب أن لا يكون أخيراً، وما بعد الاندحار أصعب وأعقد، وهذا ما يجب الانتباه اليه.‏‏

مصطفى الحاج علي‏‏

2006-10-30