ارشيف من : 2005-2008
لأن قضية اغتيال الرئيس الحريري وطنية معرفة الحقيقة شرط العدالة الحقة
الانتقاد/ حدث في مقالة ـ العدد 1139ـ 9/12/2005
لم يكن وصول المندوب الحالي للولايات المتحدة إلى مجلس الأمن جون بولتون سهلاً، فهو حاز هذا المنصب بعد كباشٍ صعبٍ وطويل بين بوش والكونغرس الأميركي، وبفعل إصرار بوش نفسه على منحه هذا المنصب. هذا الإصرار ليس اعتباطياً وليس شخصياً، فبحسب بوش فإن بولتون هذا هو خير من يمثل الولايات المتحدة في مجلس الأمن والأمم المتحدة، لا لشيء سوى أنه من الداعين الكبار في صفوف المحافظين الجدد إلى تفجير مبنى الأمم المتحدة، والتحرر من قيودها. وهو من الذين يتمنون أن يستيقظوا ذات يوم، ويرون الأمم المتحدة قد زالت عن خارطة الوجود، لأنها احدى العقبات التي ما زالت تقف، ولو شكلاً وخجلاً، عقبة أمام الاستفراد الأميركي بالهيمنة على العالم.
من كانت هذه وجهة نظره في الأمم المتحدة، وفي مجلس الأمن، لا يمكن أن تتوقع منه ممارسة عملية بناء واجب، لهذه المنظمة الدولية، بل على العكس تماماً، ان وظيفة بولتون هي الإجهاز الكامل على دور مجلس الأمن والأمم المتحدة، والإجهاز لا يكون بالضرورة اقصائياً وهدمياً، وإنما يكون من خلال عملية امتصاص وهضم كاملين لهذه المؤسسة الدولية في معدة السياسة الأميركية، وبما يؤدي إلى تحويلها كلية إلى أداة طيعة في خدمة هذه السياسة. هذا ما تؤكده مؤشرات كثيرة مؤخراً، قد يبدو بعضها رمزياً، إلاّ أنه بالغ الدلالة: بولتون هذا يريد إبقاء ميليس محققاً، أو استنساخ نسخة مطابقة له بالكامل. الفكرة، هنا، أن بولتون، وبالمناسبة، هو الوحيد الذي أطلق هكذا موقف، من بين كل أعضاء مجلس الأمن، يتعاطى مع كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة، ومع ميليس، كموظفين لديه، لا بوصف الأول، هو رئيس أكبر وأعلى وأهم مؤسسة دولية في العالم، ولا بوصف الثاني بأنه تجسيد لقرار دولي صادر عن مجلس الأمن مجتمعاً، لا عن دولة بعينها، بدوره كوفي أنان يطلق موقفاً فيه الكثير من الشكوى، والكثير من المرارة، والتذمر، من شدّة التدخل الأميركي، ليس فقط في مجريات التحقيق اللبناني، وإنما أيضاً، في التفاصيل اليومية لعمل الأمم المتحدة. ميليس نفسه، وفي ما سرب عن مصادر مقربة منه، ان أحد أسباب رفضه القبول بتجديد عقد ترؤسه للجنة التحقيق الدولية، هو حجم الضغوط التي تبذل عليه، والتي يبدو أنها كانت السبب في تورطه في شهادة شهودٍ لا مصداقية ولا صدقية لهم (الصدّيق، هسام.. واللائحة قد تطول)، وبالتالي، كان على ميليس أن يختار بين نهاية مزرية كمحقق دولي اكتسب مؤخراً سمعة وهالة كبيرتين، وأن يختصر الطريق، ويخرج محفوظ الكرامة قبل أن ينهار كل شيء. لعل ميليس، وهو الثعلب أو الذئب الألماني، أدرك بحسه القضائي والتحقيقي مآل الأمور، فأراد أن يكتب النهاية لمهمته بقرار منه والآن قبل الغد، حتى لا تكتب المهمة نفسها نهايته المهنية بطريقة دراماتيكية. والمسؤول، هنا، أولاً وأخيراً، كما يبدو، هو ضغوط من يضغط، لا سيما الأميركين منهم تحديداً.
بعد هذا كله، كيف يمكن الركون إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في قضية بالغة التعقيد والحساسية، والتوظيف السياسي لها بلغ حدّه الأقصى، لا سيما لجهة وضع لبنان تحت نير الوصاية الأجنبية اسماً، والأميركية فعْلاً، أعني بذلك قضية اغتيال الرئيس الحريري، ولجهة طلب إنشاء محكمة دولية للنظر فيها.
إلى ما تقدم، ومن نافل القول، ان هذا الطلب في مثل الظروف الحالية لمجلس الأمن والأمم المتحدة، والظروف الخاصة التي يمر بها لبنان، لن تكون المحكمة الدولية إلاّ محطة إضافية ونوعية في عملية اقحام لبنان في شكل جديد من أشكال الهيمنة الأميركية على لبنان، التي ولا ريب ستستغل هذه المحكمة لمصالحها السياسية الخاصة، وهي مصالح "إسرائيلية" في الصميم.
أضف إلى ذلك، أن مطلب المحكمة الدولية في هذا التوقيت هو من قبيل صرف المراحل، ومحاولة لوضع الحصان قبل العربة، إذ لا يصح قانونياً ولا موضوعياً، الذهاب إلى المحكمة والتحقيق نفسه لم ينته، بل أكثر من ذلك، أن ميليس نفسه يقول انه يمكن أن يستمر إلى سنوات، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل، على أن ما بحوزه التحقيق لا يمكن الركون إليه لإصدار قرار ظني اتهامي يوصل إلى المحاكمة.
ثم لنا أن نتساءل هنا، هل قضية اغتيال الحريري، وقضية التحقيق، هما قضيتان وطنيتان، أم قضيتان تخصان فئة بعينها؟ إذا كانتا قضيتين وطنيتين، فهما تخضعان بالضرورة لمنطق وآليات التوافق السياسي العام، ولا يمكن إخضاعهما لمنطق الوصاية الخاصة، ومنطق الفرض والإملاء، كما حاول البعض مؤخراً.
ولا يجوز، في هذا الإطار، وضع مطلب الحقيقة في سياق مطلب المحكمة الدولية، وكأن من يرفض الثانية، هو يرفض الأولى. بل على العكس من ذلك تماماً، ان الحرص على الحقيقة التي هي الشرط الضروري للوصول إلى العدالة الفعلية، وبالتالي، للوصول إلى المحاكمة، يفترض، وفي ضوء التطورات التي حدثت مؤخراً، وذات الصلة بالتحقيق، أن يدفع لجنة التحقيق إلى إجراء تقويم شامل لمجمل صيرورة التحقيق والإجراءات المعتمدة فيه، ولبنيته القائمة، والأدوات، والركائز التي اعتمد عليها، لا الإصرار على ما هو قائم حالياً، والتمسك به.
إن المطلوب اليوم هو مراجعة تقويمية شاملة لما جرى، ومن ثم مراجعة للكثير من المواقف والسياسات التي بنيت على حسابات ورهانات وتمنيات، قد يكون بان، للبعض، عدم مطابقتهما للواقع.
إن هذه المراجعة اليوم، قد تشكل أحد المداخل الضرورية، لبناء لبنان المستقبل الذي ينتظره الجميع، ووضع بدايات خطة وطنية شاملة للخروج من المأزق العام الذي نحن فيه.
مصطفى الحاج علي
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018