ارشيف من : 2005-2008
"الأكثرية" الوهمية والواهمة:الى أين تسوق البلاد والعباد؟
الانتقاد/ زوايا ـ العدد 1141 ـ 23 كانون الاول/ ديسمبر 2005
تسوّر "الأغلبية" الحاكمة نفسها بجملة من الأضاليل حتى لا نقول أكاذيب، في سياق محاولتها حماية نهجها التسلطي، والأهداف الأميركية المتوارية حوله.
أولى هذه الأضاليل، هي ادعاؤها بأنها تشكل بالفعل الأكثرية أو الأغلبية، في حين أن الواقع يقول عكس هذا تماماً. واذا كانت الانتخابات النيابية الأخيرة هي المرجعية الأساس لهذا التقدير، فالجميع يعرف أن لتحالف أمل ـ حزب الله على الأقل عشرة نوابٍ داخل الأكثرية النيابية الحالية، واذا ما عدنا الى حقيقة التمثيل الشعبي، فإن مجموع ما يمثله التيار الوطني الحر وتحالف أمل ـ حزب الله وباقي القوى والأطراف السياسية التي لم تنجح في بلوغ المجلس النيابي، هي الأغلبية الأعم. وبالتالي، فإن الادعاء بأن قوى الأغلبية النيابية هي ذات التمثيل الأكثري ليس إلا ادعاءً باطلاً. وخطورة هذا الادعاء أنه يحدث انفصاماً جديداً بين الواقع الاجتماعي وأطيافه المتنوعة وواقع التمثيل السياسي له، ما يجعل هذا التمثيل خارج نصاب التمثيل الشعبي الفعلي على الأقل في غالبيته العظمى. وهكذا نعود مجدداً الى لعبة المسارات المتوازية بين الواقع الاجتماعي والواقع السياسي، ما يعني أننا أمام واقع سياسي تسلطي قهري، بكل ما في الكلمة من معنى، حيث تعمد الأقلية الى فرض ارادتها ومشروعها السياسي على الأكثرية الفعلية.
ثاني هذه الأضاليل، ان هذه "الأكثرية" الموهومة والمتوهمة فجأة اكتشفت "الطائف" ومعه الدستور اللبناني لتسند دعوتها في ضرورة اللجوء الى لعبة التصويت المضمونة لمصلحتها، متناسية أو متجاهلة وعن عمدٍ أمرين أساسيين: الأول، ان لعبة الأكثرية والأقلية انما تصح في نظام ديموقراطي حقيقي، حيث للمواطن قيمة بذاته، وخارج انتمائه الديني أو الطوائفي أو المذهبي، وحيث تنتظم الحياة السياسية في اطار من الانتماءات والولاءات الحزبية، بينما قاعدة النظام في لبنان ما زالت قاعدة طوائفية بامتياز، ولا يزال المجتمع اللبناني في مرحلة ما قبل الوطنية، كما اثبتت الانتخابات النيابية الأخيرة، ومن ثم أي اخضاع لهذا الواقع للعبة الأكثرية والأقلية سيكون بمثابة أقصر طريق لممارسة لعبة الاقصاء والنفي والتهميش ليس لقوى بعينها، وانما لطوائف بكاملها، وهذا بدوره هو أقصر طريق لتعميق الهوة بين الطوائف، ورفع المتاريس النفسية والسياسية في ما بينها، وبالتالي ضخ المزيد من العراقيل والعقد أمام اختصار الطريق للمزيد من التقارب والتآلف، واختصار المسافة نحو تطوير آلية انتاج الحالة الوطنية. من هنا، فإن ممارسة لعبة الأكثرية والأقلية في نظام طوائفي هي أقصر طريق نحو الحروب والصراعات الداخلية، في حين ان مقتضى النظام الطوائفي يفترض التوافق، باعتبار ان التوافق هو شرط استقرار العلاقة بين المكونات الطائفية للنظام اللبناني على نصاب من التوازن والعدالة. ولذا، وكما تعلمنا التجارب التاريخية العديدة التي مرّ بها لبنان منذ نشوئه السياسي، أنه في كل مرة ساد التوافق الداخلي ساد الاستقرار والسلام الداخليان، وفي كل مرة كان يختل فيها هذا التوافق كان البديل هو الاضطراب الداخلي ان لم يكن الاحتراب الداخلي، واذا كان من ضابط له فهو القهر الخارجي. من هنا، لا يمكن اللجوء الى التفسير الحرفي لبعض نصوص الدستور، بمعزل عن الروح العامة، والأساس الذي نهض عليه الميثاق الوطني الداخلي، اضافة الى الدستور اللبناني.
الأمر الثاني، ان هؤلاء يحاولون من خلال اللجوء الى الدستور التحايل على طبيعة الأزمة، من خلال تصويرها وكأنها انعكاس لخلاف دستوري ـ حقوقي، أو انعكاس لخلاف بين من هو مع الدستور والطائف، ومن هو ضدهما. بينما يدرك الجميع ان طبيعة الأزمة الحالية هي سياسية بامتياز، وبالتالي، لا يمكن أن نجد حلولاً لها خارج اطار الحلول السياسية نفسها، كما ان اللجوء الى الدستور من قبل "الأكثرية" الموهومة والمتوهمة ليس إلا من قبيل الاستعانة بعدة حقوقية في سياق صراع سياسي واضح، وأكبر دليل على ذلك، ان جلّ المناقشات والمباحثات بين القوى المتخالفة هي ذات عناوين سياسية بامتياز.
وعندما نقول ان طبيعة الأزمة سياسية، فهذا يعني أن فهمها وادراكها يجب ان ينصب على أسبابها ودوافعها السياسية. ومن نافل القول هنا، ان الصراع في لبنان اليوم هو أولاً وأخيراً على موقعه ودوره: هل يبقى لبنان في موقع المقاومة والممانعة للمشروع الاميركي ـ الاسرائيلي للهيمنة على المنطقة، وبالتالي في موقع الممانعة والمقاومة للاستراتيجية الاميركية ـ الاسرائيلية الهادفة الى صياغة ما يسمى الشرق الأوسط الكبير، وفق آلية "الفوضى البناءة"، التي هي العبارة المموهة لإعادة النظر في مكونات الدول والأنظمة من خلال اعادة هندستها اجتماعياً وثقافياً تمهيداً لإعادة هندستها سياسياً، وبما ينسجم مع متطلبات هذا المشروع، وبما يمنح الكيان الاسرائيلي التفوق المطلق في المنطقة، والنفاذ الاقتصادي والسياسي والأمني الى دولها، أم هل يتم نقل لبنان الى الموقع المغاير تماماً، وذلك من خلال الامساك بكل مفاصله الداخلية، وتشريع الأبواب واسعة للوصاية الاميركية لتضع اليد عليه.
هذا في جانب، وفي جانب آخر، ان قوى "الأكثرية" الوهمية والمتوهمة التي تعثرت في خطواتها مؤخراً بفعل تعثر خطوات النسخة الأصلية لها المكتوبة بالحبر الاميركي في المنطقة اكتشفت فجأة، أنها، ومع الوقت، قد تذهب "فرق عملة"، فقررت الانقلاب على المعادلة ـ الاتفاق عسى ان تتمكن من ان تحجز لنفسها موقعاً ودوراً يصعب مع الوقت احتمال التراجع عنه أو التضحية به في لعبة الكبار وحسابات مصالحهم.
ومن المفارقة الواضحة، ان الأكثرية الموهومة هذه، لا يكفيها الامساك بالسلطة في مجمل مواقعها، وعملها الدؤوب لإعادة صياغة المؤسسات والأجهزة بما يتناسب ومصالحها، وإنما تحاول أيضاً العودة الى المعارضة والشارع، لكي تستحوذ على كامل اللعبة السياسية.
وفي هذا الإطار، تحاول قوى الأكثرية الموهومة التظاهر بالحرص على التوافق والحوار، في الوقت الذي تبدو فيه أنها تستكمل عدة المواجهة، ان لم نقل عدة الحرب.
واذا أخذنا بعين الاعتبار اصرار هذه الأكثرية الموهومة على ركوب رأسها، وعدم العودة عن هوسها بالسلطة، كجسر عبور للمشروع الاميركي الى لبنان، انما تدفع بالأمور نحو المزيد من التأزم والاحتقان، جاعلة خيار المواجهة هو الخيار الوحيد المتاح، وعندها ستكون امام لعبة الشارع مجدداً، التي يصعب على أي أحد تدارك أو احتواء عواقبها.
مصطفى الحاج علي
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018