ارشيف من : 2005-2008
الوساطة العربية: الممكن وسط صراع الخيارات وتشابك الحسابات
لا يبدو أن العام 2006 سيكون أفضل حالاً من العام 2005، فالعام الجديد تسلم من العام الفائت جملة من الأزمات والقضايا المفصلية والمصيرية في آن:
أولاً: أزمة حكومية مفتوحة على أزمة حكم، وأزمة علاقات سياسية عنوانها الظاهري انعدام الثقة، وعنوانها الباطني الخلاف حول الخيارات السياسية الكبيرة في لبنان. والأخطر في هذه الأزمة هو محاولة قوى الموالاة الجديدة تحويلها الى حالة صراع وتصفية حسابات تنال من وجود النظام السوري نفسه انطلاقاً من لبنان، وتنال أيضاً من موقع رئاسة الجمهورية، اضافة الى محاولتها فرض أجندتها الخاصة على الواقع اللبناني، وهي أجندة تتداخل وتتشابك مع أجندات دولية وإقليمية معروفة.
هذه القوى حاولت أيضاً استثمار الأزمة الحكومية الى ما يتجاوز طبيعتها بكثير، مدشنة هجوماً إعلامياً وسياسياً على حزب الله والمقاومة، يندرج استراتيجياً في سياق الالتزام المعطى لبعض الجهات والأطراف الدولية بأن تكون نهايات العام 2005 هي بدايات السير في تطبيق الشق المتعلق بسلاح المقاومة في القرار 1559، وتقتضي هذه الاستراتيجية التدرج في عملية التنفيذ، بحيث نبدأ المرحلة الأولى بتحويل قضية المقاومة من مشكل للعدو الإسرائيلي الى مشكل لبناني ـ داخلي، بينما تبدأ المرحلة الثانية بفرض حصار أو طوق ناري إعلامي ـ سياسي حول المقاومة لوضعها في موقع من يتلقى الضربات وينشغل في دفعها عنه، وفي حالة من الانكشاف الوطني شعبياً وسياسياً، وبالتالي تحويلها من قضية وطنية الى قضية طائفية ومذهبية، ومحاصرتها بعلامات استفهام وشكوك تطعن في حقيقة ولائها الوطني.. في الوقت الذي يتناسى هؤلاء عن قصد أن ممر المصداقية والصدقية الوطنية هو ذاك الذي يتعمد بالدم في معركة التحرير من المحتل، حيث ليس هناك أغلى من الأرواح والنفوس التي يمكن ان تقدم على خراب الوطن والوطنية، في حين أن أصحاب هذا المنطق كانت اختباراتهم الوطنية تمر في دهاليز الفساد والسرقات واقتراف المجازر وممارسة النفاق والقفز على الحبال باحتراف ما بعده احتراف.
فهؤلاء لأسباب شخصية تخصهم وحدهم ولا صلة لها بحساب الوطن ومصالحه، ارتأوا أن يعادوا سوريا اليوم، ويريدون من الجميع ان ينساقوا معهم من دون أي تردد، ليجعلوا بالتالي معمودية الوطنية الجديد هو مقاومة سوريا لا لشيء، وإنما لتستقيم حساباتهم السياسية، ولينتصب ميزان إمساكهم بالسلطة كاملاً، وليؤدوا قسطهم للعلى في بازار تبادل المصالح مع الأجنبي الذي ليس هنا بالتعريف والتدقيق إلا الأميركي والفرنسي والإسرائيلي.
ثانياً: توتر كبير في العلاقات اللبنانية ـ السورية، يتحمل مسؤوليته المباشرة أولئك الذين بنوا كل حساباتهم ورهاناتهم السياسية والسلطوية على نقطة مفصلية هي تغيير النظام في سوريا، والذين ساءهم كثيراً أن يظهر هذا النظام ممانعة واضحة وقدرة على الصمود والمواجهة.
ان مشكلة هؤلاء مع سوريا هي أنهم ربطوا مصير انقلابهم السلطوي داخل لبنان بمصير التغيير في سوريا، وبالتالي جعلوا من مسألة شن الحرب على النظام السوري مستفيدين من العدة الاتهامية التي توفرها لهم لجنة التحقيق الدولية، ومن التوجه الاميركي الذي أغواهم في هذا الاتجاه ومعهم التوجه الفرنسي أيضاً، ممراً إلزامياً لمضي قدماً في إمساكهم بالسلطة في داخل لبنان.
هذا التلازم المرجو بين تغيير الأوضاع في لبنان وتغيير الأوضاع في سوريا، أمام الوضع الداخلي على صفيح ساخن، وانقسامٍ مرير في الوقت الذي كان ممكناً خصوصاً بعد الخروج السوري العسكري والأمني من لبنان، اجراء عملية تقويم شاملة للعلاقة بين البلدين، تفتح الطريق أمام عملية تنظيمها على قواعد ثابتة ومستقرة وصحيحة، وبما يخدم مصالح البلدين. لكن الجموح السلطوي لقوى الموالاة وشيك، وهذا الجموح بالأجندة الإقليمية للولايات المتحدة وجنونها المغامراتي في الحسابات، دفعها الى وضع نفسها ووضع لبنان على علاقات حادة مع سوريا.
ثالثاً: انقسام كبير في الموقف من التدخل الأجنبي، فهناك من يرغب فيه لدرجة الشبق، ولدرجة تصنع فيها الحدود بين مراعاة الاعتبارات الخاصة بالمجتمع الدولي والقرارات الدولية، وحدود وضع لبنان تحت مفصلة الوصاية والتبعية المطلقة للسياسات الأجنبية والاميركية منها تحديداً. وهناك من يدعو الى رسم حدود واضحة بين هذه المراعاة والوصاية.
رابعاً: الخلاف حول قضية اغتيال الرئيس الحريري: ففي الوقت الذي يسجل فيه إجماع حول ضرورة جلاء ومعرفة الحقيقة في مقتل الرئيس الحريري، هناك خلاف لا يخفى حول الوسائل المعتمدة لذلك، وحول عملية الاستثمار السياسي لهذه القضية التي لا تخفى على أحد، فلجنة التحقيق وعملها لم تعد محصورة في شقها القضائي البحت، وإنما تحولت الى منصة من منصات الهجوم السياسي سواء في الداخل اللبناني على كل من له ملاحظة أو رأي في عملها، أم إقليمياً وتحديداً على سوريا.
من هنا جاءت الدعوة المستمرة الى ضرورة التفكيك في قضية الحقيقة بين البعد القضائي والبعد السياسي، لأن من شأن هذا التفكيك ان ينصف قضية الاغتيال نفسها، وأن يعطل أحد مصادر الانقسام الداخلي.. وأحد مصادر التوتر في العلاقة مع دمشق، خصوصاً بعد التطور الكبير الذي سجلته على صعيد تعاونها مع عمل لجنة التحقيق. الا ان لقوى الموالاة رأيا آخر في هذا الموضوع، ولأهداف سياسية معروفة من الجميع ولا تخفى على أحد.
خامساً: انفتاح الوضع على الحدود مع الكيان الإسرائيلي على احتمالات تفجير بفعل الانتهاكات الاسرائيلية المستمرة، وتهديداته المتواصلة التي بلغت مؤخراً حد التلويح بشن حرب جديدة على لبنان، والتوجهات السياسية لبعض الأطراف اللبنانية للدفاع ـ بضغط دولي ـ نحو أوضاع جديدة على حساب حماية أمن لبنان ولمصلحة العدو الإسرائيلي.
سادساً: الانقسام في النظرة الى طبيعة المرحلة المقبلة: فهناك من يدعو الى الإطاحة برئيس الجمهورية عبر دفعه الى الاستقالة أو عبر تقصير مدة ولايته، ذلك في سياق محاولة إكمال عملية الانقلاب الداخلي الذي تطمح اليه قوى الموالاة. وهناك من يرى ان المعادلة السياسية الداخلية السائدة لم تعد صالحة للاستمرار، لانعدام التمثيل الحقيقي لتوازنات القول، فالأكثرية الحالية ليست في حقيقتها الا أقلية اذا أخذنا بعين الاعتبار حجم المعارضة والقوى غير الممثلة اليوم في الحكم، من هنا جاءت الدعوة الى أحد أمرين، خصوصاً وأن الموضوع على بساط البحث هو مصير لبنان برمته هما: الذهاب الى انتخابات مبكرة وتشكيل حكومة جديدة، او الدعوة الى طاولة حوار لا تستثني أحدا.. إلا أن هذه الطروحات لا تنسجم مع أهواء الجامحين للاستئثار بكل شيء من السلطويين الجدد.
سابعاً: استفحال الأزمة الاقتصادية والمالية، حيث البطالة وهجرة الشباب وإفلاس الخزينة وارتفاع الدين العام وفوائده..
مجمل هذه الملفات تتكدس في الساحة اللبنانية وفي مرحلة من الصراع المحلي والإقليمي والدولي، الذي تتشابك فيه الأجندات الداخلية والخارجية الى أقصى الحدود، وفي الوقت الذي تكاد الأشهر الستة القادمة التي هي مدة التمديد للجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري، تكون المرحلة الحاسمة التي تتحكم في الأحداث.
من هنا، من المتوقع أن تشهد هذه المرحلة تجاذبات شديدة تتداخل فيها عوامل متعددة، وتلعب فيها أوراق مختلفة لإدخال تعديلات في موازين القوى، بما يتيح لكل طرف تثبيت خياراته السياسية، أو على الأقل الانحكام الى توازن جديد يجد تعبيره في ستاتيكو سياسي بانتظار حدوث متغيرات ما تفرض إعادة النظر فيه.
وفي هذا المناخ تأتي الوساطة السعودية ـ المصرية، أي في مناخ صراع الخيارات وتشابك الأجندات السياسية المختلفة، الأمر الذي يجعل مهمتها في غاية التعقيد، ويجعل احتمالات ان تخرج بحلول جذرية أمراً صعباً في هذه المرحلة، ان لم يكن مستحيلاً.. ما يدعو الى التكهن بأن أقصى ما يمكن بلوغه هو إقناع الأطراف بنوع من التهدئة، تسمح على الأقل بتمرير بعض الاستحقاقات، كما تسمح بجلاء اتجاهات الأمور على أكثر من صعيد وملف دولي وإقليمي حسّاس.
وفي هذا الإطار تبدو خيارات معالجة الأزمة الحكومية محدودة: إما التوصل الى صيغة تسمح بعودة المعتكفين اليها، وهذا الأمر ليس سهلاً بعد كل التطورات الآنفة، وإما أن تبقى الأمور على حالها، أي الاستمرار على وضعية الاعتكاف بانتظار المزيد من الفرص التي يمكن ان تفتح الأبواب مجدداً، وإما الذهاب الى الاستقالة. ومن الواضح ان لكل خيار حساباته، ولا يمكن عزله عن اتجاهات الأمور الخاصة بباقي الملفات. وبالتالي فأي موقف سيعتمد سيكون بمثابة مؤثر على طبيعة المرحلة المقبلة.
مصطفى الحاج علي
الانتقاد/ حدث في مقالة ـ العدد 1143 ـ 6 كانون الثاني/ يناير 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018