ارشيف من : 2005-2008
نصر الله ـ عون: لقاء عامر بالدلالات والرسائل
لقاء سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مع رئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون مميز بكل المعايير والاعتبارات. فهو جاء في زمانه، ومكانه، ومضمونه، عامراً بالدلالات السياسية التي تفيض عن حدود العلاقات الثنائية بين الطرفين، لتشمل الوطن برمته.
ولأن الطرفين يدركان المغزى التاريخي والسياسي لهذا اللقاء، عمدا إلى انضاجه على نارٍ خفيفة، كي لا يأتي مسلوقاً، أو مخلوقاً مشوهاً وأعرج بحيث يسقط عند أول تحدّ، أو عند أول منعطف، ولهذا الاعتبار، جاء اللقاء تتويجاً للتفاهم على وثيقة سياسية، الأمر الذي يجعله بالفعل أكثر من مجرد تعاون سياسي، وأقل من تحالف سياسي أيضاً، وإن كان ما تمّ التفاهم عليه يمكن أن يؤسس لاحقاً لتحالفٍ ما، يبقى رهن مسؤولية الطرفين في المضي قدماً نحو شراكة وطنية حقيقية، ولا سيما أن ما تمّ التوصل اليه يتجاوز الاعتبارات التكتيكية، والحسابات الآنية، والمناورات السياسية، فلا الوثيقة السياسية تشي بذلك، ولا شخصية الرجلين المشهود لهما بالعناد في التزام ما يتعهدان به، اضافة إلى نزوعهما الوطني العام، وإن تباينت أحياناً منطلقاتهما والاعتبارات. كما أن ما يتطلع اليه الاثنان يرتقي إلى مصاف رجال الدولة الحقيقيين الذين يغلبون الاعتبارات العامة على المصالح الخاصة، ويتطلعون إلى المستقبل بوصفه المرشد الأعلى، والى الماضي بوصفه المكان الأمثل لأخذ العبر، والى الحاضر بوصفه نقطة تقاطع بين الواقع والمثال، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
في هذا الاطار، لم يكن اختيار كنيسة مار مخايل ـ الشياح مكاناً لعقد اللقاء مجرد إخراج بروتوكولي يخص موقع الرجلين، والا لاختارا مكاناً حيادياً بالمطلق، وانما كان عن سابق تصور وتصميم، لأن الرجلين يدركان المعنى الرمزي لهذه الكنيسة، فهي إلى كونها مكان عبادة للمسيحيين، وتحديداً الموارنة منهم، فهي شاهد حي وتاريخي على خطوط تماس الحرب الأهلية، فبقدر ما كانت هذه الكنيسة شاهداً على هذه الحرب، فهي اليوم تشهد على بناء السلم الأهلي، بل قل على تدعيمه، من مداخل جديدة، ووفق أسس جديدة، لأن الذين يلتقون اليوم هم الأكثر بعداً في ما مضى لاعتبارات ليس محل الخوض فيها الآن، وبالتالي، فالالتقاء بما هو فعل تقارب واقتراب بين زعامتين لكتلتين شعبيتين هما الأكثر على مساحة الوطن، هو بمثابة اعادة صياغة للاجتماع اللبناني صياغة سياسية من مداخلها الأكثر وثوقية واطمئناناً.
واذا كانت الكنيسة لن تكسب من مجيء عون اليها جديداً، وهو المتنكب للزعامة المسيحية، فإن لمجيء حزب الله اليها أكثر من معنى ودلالة ورسالة، خصوصاً في زمن استعار الحساسيات الطائفية، واشتداد أوار المخاوف المذهبية، في ظل انفلات العصبيات الدينية من عقالها. فقطع المسافة الى الكنيسة هو بمثابة قطع المسافة الموالفة والمطمئنة مع المسيحيين كشركاء في الوطن لهم ما لنا ولنا ما لهم، وعليهم ما علينا، وعلينا ما عليهم.
وفي الزمان يبدو اللقاء محكوماً بأفقين: استراتيجي وظرفي. أما الاستراتيجي، فإنه لكونه يؤسس لنمط جديد من العلاقات السياسية بين قوى مركزية، تقول، ومن موقع قوتها، انها لا تريد إقصاء أحد، ولا تريد استثناء أحد، ولا تريد أن تقطع مع أحد، أو أنها جبهة في وجه أحد، وأكثر من ذلك، فهي لا ترسم حدوداً لأي منهما، ولا تضع له قيوداً، وان كان ما تم التوافق عليه يلزمهما معاً بسقفٍ لا يمكن تجاوزه، اذ لا يستطيع أي منهما أن يأتي بما يخالفهما.
ومن جهة أخرى، فهي تعيد النظر في تشييد العلاقات السياسية، ومفهوم التعاون السياسي، لتعيد بناءه على قاعدة من التفاهم السياسي الحقيقي الذي يرتقي الى درجة الالتزام والإلزام المشتركين، بدلاً من خضوعها لمقتضيات التوظيف والاستثمار السياسي الذي لا يبني علاقات، ولا يؤسس لحياة سياسية سليمة.
أما الظرفي، فيستفيد معناه من كون اللقاء شاءت ظروفه أن يأتي بعد جملة تطورات أساسية شهدتها البلاد مؤخراً: عودة وزراء أمل وحزب الله عن اعتكافهم بعد موقف رئيس الوزراء فؤاد السنيورة من المقاومة. انفراط عقد ما كان يعرف بالتحالف الرباعي، وانفراز الساحة الداخلية الى محاور واصطفافات معروفة التوجهات والأهداف والنيات. والاستحقاق الانتخابي في منطقة بعبدا عاليه، الذي سيكون له نتائج رمزية تفوق نتائجه الفعلية، هذا الاستحقاق الذي تتوزع فيه المواجهة بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية المدعومة من قبل كل من النائب وليد جنبلاط وتيار المستقبل. وأخيراً أحداث منطقة الأشرفية وطريقة الاستغلال السياسي الفاجر لها من قوى 14 آذار.
فاللقاء في حصيلته النهائية يشكل إعادة موضعة في العلاقات السياسية، وفي معنى هذه العلاقات، على خريطة علاقات الأطراف السياسية الأساسية في ما بينها، كما يشكل اعادة نظر في توازنات هذه الخريطة ووجهتها السياسية، وذلك باتجاه تصويب هذه التوازنات بعد محاولات التشويه المتعمدة لها من قبل تحالف الرابع عشر من آذار. فالنصاب الشعبي ـ التمثيلي الذي يمثله التيار الوطني الحر وحزب الله، وحلفاء كل منهما، هو على النقيض تماماً من الواقع التمثيلي لقوى هذا التحالف، الأمر الذي يعطي للقاء مفعول التعرية له، أو على الأقل لأطراف معينة فيه.
بكلمة أوضح، اذا كان نصاب التمثيل الشيعي الواسع الذي انعقد لتحالف حزب الله ـ أمل شكل عقبة أساسية أمام محاولة احتكار السلطة في لبنان من قبل قوى 14 آذار، فإن نصاب التمثيل الواسع الذي يمثله التيار الوطني وحزب الله سيشكل كسراً نهائياً لعملية الاحتكار هذه، الأمر الذي يفرض منطقياً وطبيعياً إجراء اعادة نظر جذرية في مجمل محاولات صياغة الحياة السياسية في لبنان على قاعدة السيد والأتباع، وبالتالي اعادة صياغتها على قاعدة من التكافؤ والندية والحقوق المتساوية والتوافق الوطني الجامع، وبالانطلاق من مبدأ الاعتراف بالجميع، وبما يمهد لحكومة وطنية جامعة، تكون صورة فعلية لحقيقة التوازنات السياسية في لبنان، ولا شك، ان اللقاء بما هو بين أطراف محليين، وينطلق من قاعدة تفاهم هي محض صناعة محلية، يشكل رداً غير مباشر على المحاولات المستمرة لقوى 14 آذار لرهن لبنان للوصاية الأجنبية، ومن منطلق تحويله الى منصة حرب لسوريا فيما لم ترعو هذه القوى عن اسقاط عداوتها للكيان الاسرائيلي، في مقابل تحويلها سوريا الى عدو مطلق، وأكثر ما يمكن ان يقع فيه هذا التحالف من خطأ هو تعامله بنيات سيئة مع هذا اللقاء، والعمل على استغلاله بطرائقهم المألوفة، فيكونوا عندها كمن تعمد اساءة فهم ما جرى. يمكن لهؤلاء ان يتعلموا، ويغيروا مما جرى، وعندها سيوفرون على لبنان وعلى أنفسهم الكثير الكثير من المشاكل والمغامرات.
مصطفى الحاج علي
الانتقاد/ تحت المجهر/العدد 1148 ـ 10 شباط/ فبراير 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018