ارشيف من : 2005-2008
تفاهمات حوارية مهمة:حسم خيارات لبنان السياسية في وجه المشروع الاميركي
مع الجولة الثانية لمؤتمر الحوار الوطني تنفس اللبنانيون الصعداء، فالذي كان بالأمس مستحيلاً بات الآن ممكناً، بل أكثر من ذلك منجزاً. ولذا من حق هؤلاء اللبنانيين الذين أمعن محترفو الترهيب السياسي والتوتير السياسي في محاصرتهم بالهواجس والمخاوف، أن يتساءلوا ولو بحيرة عن مبررات ومسوّغات المواقف والخطب المنفلتة من عقال المنطق، والآخذة في طريقها أبسط البديهيات، بل وبديهية البديهيات. ومن نافل القول أنه عندما تسقط البديهيات تسقط معها كل ركائز العقلانية مهما كان نوعها ومهما كانت طبيعتها.
من هنا، فهل نحن أمام عودة ما إلى لغة العقل والمنطق لدى هؤلاء، أم أمام مجرد رهان آخر، مغامرة أخرى، سيناريو من سيناريوهات التحايل على الذات قبل الآخرين؟
لا شك في أن التفاهم لا يمكن إلا أن يكون من نسل المنطق والعقل معاً، وبالتالي لا يمكن إلا أن يكون مؤشراً الى عودة العقل لأصحابه. وإذا كان من ايجابية أولى تُحتسب لمصلحة المتحاورين فهي غلبة العقل والعقلانية التي لا يمكن إلا أن تكون لمصلحة الوطن برمته.
ولا شك أيضاً في أن هذه العودة لا يمكن إخضاعها لمنطق الربح والخسارة، بل لمنطق المراجعة والتقويم الذي هو أحد الفرص التي يتيحها الحوار. وإذا كان من ملاحظات تسجل على ما انتهت اليه جولة الحوار الثانية فهي:
أولاً: إن تمكن المتحاورين من تجاوز قطوع ـ مجرد قطوع ـ احتمال عدم اجتماعهم مرة ثانية حول طاولة الحوار، هو إنجاز لهم جميعاً، وأنه تبقى درجة زائدة تُحتسب للرئيس بري بوصفه هو الأب الروحي والفعلي لهذا الحوار.
ثانياً: ان المشهد العام لطاولة الحوار وللمتحاورين معاً كما بدا خلال هذه الفترة، يسمح بالخلاصات التالية:
ـ ان انزياحاً واضحاً بدا في مراكز القوة للمعادلة الداخلية لمصلحة التحالف الشيعي والتيار الوطني الحر ومن يقف معهما من شخصيات أخرى. الانزياح هنا يعود بالدرجة الاولى لحجم التمثيل الفعلي لهذه القوى والأطراف، ولتسلحها بمنطق سياسي قوي وتفاهمات سياسية واضحة، خصوصاً تلك التي عقدها حزب الله مع التيار الوطني الحر.
في المقابل لم تبدُ صورة قوى 14 شباط على نسق واحد، بل بدت صورة منقسمة على نفسها، تتشظى مواقفها كأنها في دينامية تفجر لا تهدأ. صحيح أن ضرورات التكتيك هنا أساء اليها أكثر مما أحسن، لأنه كان سبباً واضحاً في فتح ثغرات داخل صفوفها، وفي استجلاب ضغوط قوية عليها من الداخل والخارج معاً، اضافة إلى مساهمته في ضعضعة منطقها وحججها.
ثالثاً: ان إجراء مقارنة بسيطة بين المواقف السياسية المعلنة والخطب السياسية المدوية لقوى 14 شباط، مع صبغة التفاهمات التي انتهى اليها الحوار في جولته الثانية، يفضي الى استخلاصات مركزية:
أ ـ التنازل عن استراتيجية السلة الواحدة لمصلحة تفكيك وعزل المسائل بعضها عن البعض الآخر. دلالات هذا التنازل ليست قليلة، فهي وإن كانت في معطاها المباشر تشير الى رغبة في التوصل الى نتائج، وبالتالي تسهيل الأمور أمام المتحاورين، فإنها في معطاها الأبعد تكشف أن المعطيات الدولية والعربية الضاغطة باتت تتقدم عندها أولوية إراحة الأوضاع داخلياً وسحب فتائل التفجير، ولو في سياق فرض "ستاتيكو" معين يتيح عزل لبنان عن التفاعل مع التطورات في المنطقة، على أي اعتبار آخر مهما كانت أولوياته المحلية ضاغطة. وبالتالي فإن هذه الاعتبارات هي التي دفعت للتراجع عن استراتيجية السلة الواحدة، وترك الأمور العالقة لمزيد من المعالجات الهادئة التي لا تستفز أحداً.
في هذا السياق جرى تقويض البازار السياسي الذي أقامته قوى 14 شباط: كل شيء مقابل رأس رئيس الجمهورية. فرئيس الجمهورية وسلاح المقاومة لم يعد التفاهم حولهما وقفاً على التفاهم حول النقاط الأخرى. هذا الفصل هو الذي أتاح اعلان التفاهمات التي جرى التوصل اليها.
هذا لا يعني في المقابل ان هذه القوى ستتخلى نهائياً عن هدفها المركزي المعلن: التفاهم على رئيس جمهورية جديد، ولذا فقد تكون التفاهمات المعلنة بمثابة ثمن مقدم لتسهيل مهمة التفاهم على ملف الرئاسة. وبكلام أوضح، اذا كانت الشروط المعلنة للتفاهم على ملف الرئاسة تتمثل بالتفاهم مسبقاً على برنامجه السياسي وعلى اسمه، فإن ما جرى التفاهم عليه يشكل بواكير التفاهم على البرنامج السياسي، ما يبقي عالقاً مسألة التفاهم على اسم الرئيس.. الا ان الإشارة الى ان مقاربة ملف الرئاسة يجب ان يتم من مدخل عام هو معالجة أزمة الحكم في لبنان، فإن هذا الملف يدخل في فضاء آخر، بحيث لا تقف معالجته عند حدود ما تقدم، لتشمل كل ما يتصل بطريقة ادارة الحكم وشؤون الدولة معاً، والتي منها حسم الخيارات السياسية المتنوعة للبنان في المرحلة المقبلة.
ب ـ انكماش المواقف الحادة لقوى 14 شباط وتراجع حدتها لمصلحة التوافق العام حتى في ما يخص مسائل حساسة.. هنا تبدو مسألة تسوية العلاقات مع سوريا تراجعاً عن الدعوة الى اسقاط النظام وإعادة تأكيد بديهية لبنانية مزارع شبعا ترميماً لتصديع هويتها بفعل مواقف جنبلاط المعروفة.. والدعوة الى اجراء مقاربة شاملة لملف السلاح الفلسطيني، وباستخدام منطق الحوار فقط بديلاً عن دعوات التحريض على استخدام القوة واستعداء الفلسطينيين، ووضع الجيش في مواجهة السلاح الفلسطيني مجدداً.
هذه التراجعات تشكل في الحقيقة غلبة واضحة لمنطق حزب الله، كما تعكس مراجعة سياسية واضحة أيضاً لسياسة الربط بين التحقيق ومسألة ترتيب العلاقات مع دمشق.. فلولا اقتناع أطراف رئيسية في قوى 14 شباط أخيراً بضرورة اجراء هذا الفصل، لما حدث تقدم في هذا الإطار.
رابعاً: لا شك في أن ما أنجز سيشكل مدخلاً عاماً لإراحة الوضعين الداخلي والاقليمي معاً، حيث سيسمح ببدء العد العكسي لعقد مؤتمر "بيروت ـ 1" ولتدشين مرحلة جديدة في العلاقات الأخوية مع دمشق.
أخيراً وليس آخراً، لقد أنجز المتحاورون أموراً أساسية، الا أن هذا لا يعفيهم من المسؤولية، أو يفترض أنه يشكل لهم مدعاة للاسترخاء، لأن المطلوب متابعة ما يجري، ولترجمة موقع لبنان العربي خيارات سياسية لا تخدم المشروع الاميركي ـ الاسرائيلي في المنطقة، وهذا هو التحدي الأبرز.
مصطفى الحاج علي
الانتقاد/ حدث في مقالة ـ العدد 1153 ـ 17 آذار/مارس2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018