ارشيف من : 2005-2008

ديموقراطية؟!.... ومجتمع غير متجانس!

ديموقراطية؟!.... ومجتمع غير متجانس!

كتب : د.امين محمد حطيط (*)‏

يستوقف الباحث القانوني في المجال الدستوري مشهد السلطة والحكم عامة في لبنان، مشهد يجمع المتناقضات، فينادي بالشيء وعكسه في آن واحد، نقول بالديموقراطية وهي حكم الشعب القائم على اساس الاكثرية، ثم نرفض قرار الاكثرية العددية، وبعدها نقول بالتوافق ثم نرفض الشراكة في القرار، ونقول بالاستقلال والسيادة، ونلجأ الى السفارات طالبين التدخل في شؤوننا ونصرة بعضنا على الآخر، ونقول بالقرار المستقل، ونذعن لأوامر هذا المبعوث الدولي او ذاك وهو يحدد ما يجب وما لا يجب، ويصنف من هو اللبناني ومن هو الطارئ، نقول بالدستور وبوجوب احترام احكامه، ولا نستسهل امراً اكثر من استسهالنا تجاوز الدستور، ونقول بالعيش المشترك، ونمارس الكيد المشترك... فأي نظام نحن نتبع؟ واي سلوك نلتزم، وفقاً لما هو معروف في الانظمة الدستورية المعتمدة عالمياً في الانظمة القديمة او المعاصرة؟...‏

من نافل القول، التذكير بان الدول تقوم بأسلوب من اثنين:‏

1 اما قناعة من جماعات بوحدة الاهداف والمصالح والاخطار، فتتلاقى منتظمة في مجتمع واحد متجانس ترتقي به الى دولة تسير السلطة فيها بالجماعة الى أهدافها وتتصدّى للاخطار التي تتهددها.‏

2 او يكون التجميع، او "التوحيد" فرض قوة يمارسها طرف ما من الجماعة ذاتها، او جهة خارجية تقتطع ارضاً، بما عليها من السكان، تماثلوا ام تعاكسوا في الرغبات، وتنشأ منهم ومنها دولة قد يكون تجانس او لا يكون بين فئاتها المكونة.. ولبنان نشأ وفقاً لهذه الصيغة ، حيث ركّب من فئات غير متطابقة الميول والمصالح او المتوافقة على نوعية التهديدات والاخطار. اذ إن المنتدب الفرنسي هو الذي حدّد الإقليم الذي سيقيم عليه دولة لبنان الكبير دون أن يقف على الرغبات الحقيقية لجميع الفئات التي انضوى بعضها عنوة في الكيان المنشأ.. وأبدى رفضاً لم يسمع، فأذعن وراح يبحث عن الافضل من السلوك للتعامل مع الامر الواقع.‏

وهنا برزت مسألة تكوين السلطة:‏

ففي المجتمع المتجانس، حيث تكون وحدة الأهداف والمصالح والنظرة الى الاخطار، يكون تنافس على السلطة بين الاشخاص (الافراد المواطنون المتساوون في الحقوق والواجبات) لتحقيق هذه المسائل البعيدة عن اي نقاش او نزاع، والتنافس يكون على اساس الاسلوب والمنهج، ولا يتخطى ذلك الى طبيعة المصالح والاخطار، نظراً لوحدتها بالنسبة لكل افراد الشعب الذين يدخلون في المواطنة مباشرة وعلى درجة واحدة دون ان يكون هناك اطار سابق على دخولهم في الدولة.‏

اما في المجتمع المركب او غير المتجانس فإن التنافس يقوم ضمن الفئة اولاً (كما هو الحال في المجتمع المتجانس)، ثم بين الفئات لنيل ما يمكن من الحقوق وتحقيق ما يُستطاع من مصالح.. إذ إن التطابق بين المصالح لا يقوم هنا كما أن المساواة بين افراد الشعب لا تقوم الا في الواجبات، ويكون تمايز في الحقوق، اذ يكون الدخول في الدولة على درجتين، الاولى الانتظام في الجماعة الخاصة (طائفة، فئة الخ.. وتكون المساواة مبدئياً قائمة داخلها). ثم دخول الجماعة ككل في الدولة.. وكذلك نيل الحقوق.. فهذه تخصص للجماعة اولاً ثم يكون توزيع داخل الجماعة ذاتها... اما السلطة فيكون تكوينها على درجتين ايضاً.. والديموقراطية الحقيقية هنا تكون فقط ضمن الجماعة ذاتها لاختيار من يمثلها (إذا استقلت كل طائفة في اختيار من يمثلها)، ويكون القرار في الاختيار قرار الأكثرية العددية الداخلية، وفي المرحلة الثانية يكون تكوين للسلطة على أساس تمثيل جميع الفئات، وليس جميع الافراد.. وهنا لا يمكن القول بالأكثرية العددية التي لا تنتظم اسسها وواقع المجتمع المركب... حيث إن اي فئة تستبعد من الدخول الى السلطة تكون محكومة ولا تكون حاكمة لنفسها بنفسها، فالقانون في الديموقراطيات هو التعبير عن الارادة العامة، حتي يكون حكم الشعب لنفسه، والإرادة العامة هي مجموع الإرادات الفردية، فإن تخلفت فئة عن المشاركة في تكوين هذه الإرادة وانبثق قانون عن سواها من الارادات، كانت السيطرة ممن فرض القانون بإرادته على من مُنع من الاشتراك في الصياغة والقرار..‏

الدستور يقول بضرورة المحافظة على العيش المشترك (مقدمة الدستور البند "ي") ويقول إن القرارات تتخذ بالأكثرية عند التصويت الذي يلجأ اليه في حال عدم التوافق. والعيش المشترك يعني احترام خصوصيات كل طائفة وإشراكها في القرار السلطة التنفيدية كطائفة تمثل بعدل في الحكومة (المادة 95 من الدستور) فإذا غابت طائفة بكاملها وجب العمل بمقدمة الدستور، وهي الاساس الذي يفسر على ضوئه ما تبقى من مواد الدستور، ويجب ان يمتنع عن عقد مجلس الوزراء حتى تعود الفئة الممتنعة عن احجامها، او يعين من يمثلها بدلاً من الممتنعين، والا عد الاجتماع مناقضاً لمفهوم العيش المشترك وخرقاً للدستور... فاذا كانت جميع الطوائف ممثلة في المجلس هنا يكون إعمال للنص الدستوري لاتخاذ القرار بالتوافق وإن تعذّر فبالتصويت والعمل بقرار الأكثرية.. الاكثرية المكونة من كل الطوائف، في مواجهة الاقلية المكوّنة من كل الطوائف ايضاً.. فإن رفض التصويت كان في الامر خرق للدستور ايضاً.‏

ان الحل لمعظلة اعتكاف الوزراء الشيعة اليوم يمكن ان يكون على وجه من اثنين:‏

وجه اول: العمل بالنصوص الدستورية القائمة، والاعتراف بأن المجتمع البناني مركباً غير متجانس: وهذا يعني التفاهم مع الوزراء المعتكفين لاستعادتهم إلى المجلس، أو إقالتهم وتعيين سواهم ممن يمثلون طائفتهم، أو استقالة الحكومة وتشكيل حكومة ممثلة لكل الأطراف وفقاً للمادة 95 من الدستور المفسرة على ضوء البند "ي" من المقدمة.‏

وجه ثانٍ: تعديل الدستور وإقامة الديموقراطية الحقيقية، واعتبار لبنان مجتمعاً متجانساً، وإفساح المجال للشعب اللبناني باختيار من يمثله على اساس المساواة بين أفراده دون الالتفات الى الفئوية او الطائفية، وهنا تحكم الاغلبية كيفما جاءت هذه الاغلبية، لان الفرد يدخل الى الدولة هنا كفرد مواطن وليس كعضو في طائفة.‏

وبانتظار ذلك يجب التوقف عن عقد مجلس الوزراء، وان حصل فيكون من حق رئيس الجمهورية ووفقاً لصلاحيته في حماية الدستور، أن يمتنع عن توقيع قرارات المجلس المنعقد في هذا الشكل، كما يكون لكل صاحب مصلحة أن يطعن بهذه القرارات امام مجلس الشورى متمسكاً بأحكام الدستور..‏

متذكرين دائماً ان المبدأ هو المبدأ فإما أن يُعمل به كله ومن الاصل او يُترك كله ومن الأساس، أما ان نختار من التطبيق ما يناسب مصالحنا ونهمل ما يعاكسها، فهذا ليس عدلاً او منطقاً سليماً...‏

إننا في عصر القرية الكونية الواحدة نرى الحل بإلغاء الحدود بين الطوائف، والنظر الى المواطن كمواطن في دولة، وليس كرقم في طائفة فهل نملك الجرأة ونسقط الحدود الطائفية؟ ام ان الرغبات الأجنبية والغربية تحديداً هي التي ستراعى، في ما يريد أصحابها لنا من ان نكون طائفيين مشتتين متنازعين، غير قادرين على بناء وطن او دولة تواجه مطامع العدو الإسرائيلي، ونحن ننساق إلى تلبية هذه الرغبات ضد مصالحنا؟ فان استطعنا فلنقدم، والا فليراعَ الدستور كلاً متكاملاً، ولتحترم قواعد العدالة والمنطق.‏

(*) استاذ جامعي‏

المصدر: صحيفة السفير 9/1/2006‏

2006-10-30