ارشيف من : 2005-2008

وطن يمزقه الجدار

وطن يمزقه الجدار

قصيدة للدكتور وداد البرغوثي*‏

وطن يمزقه الجدار‏

إربا ولا لغة تجّمعه بكل حروفها وطنا‏

ولا أهلا ودار‏

لغة الحصار تحاصر الطرقات والأبواب‏

تخترق النوافذ‏

ما بين هذا البيت والشرفات حيطان وأسوار ونار‏

أفعى تلف حبالها وتسير في وطن تفتته شظايا من غبار‏

طفل يلوّح بالكتاب لغرفة الصف البعيدة‏

أو يدور ليلمح الأدراج‏

أو بعض الصغار‏

عين تحدق في الفضاء‏

ولا ترى غير الدمار‏

والحائط الدموي يعلو‏

أو يغيّب خلفه التاريخ والأرض المباحة للتتار‏

يغتال رغم أنوفنا فرح الطفولة والنهار‏

ستون عاما والجراح على الجراح‏

وجرح هذا الجيل ضمد بالبهار‏

هذا الجدار يمزق الوطن الصغير‏

ولا يمزق صمت موطننا الكبير‏

من المحيط إلى الخليج‏

ولم تغادر ماءها الأمواج في عرض البحار‏

وطن يحاصره الحصار‏

وطن يحاصره العدو بحقده‏

يبني له وطنا ليحكمنا به‏

أرضا يحاكم أمتي فيها‏

ونحن الأولون‏

صرنا متاعا زائدا أو طارئا‏

لا أرض لا أوطان تؤوينا وتحضننا‏

ولا رمل الشواطيء يرتضينا‏

أمة، شعبا، وبيتا مستعار‏

والأقربون يحاصرون بصمتهم‏

والصمت عار‏

والقدس والأرض المقدسة استغاثت واستجارت‏

لا مجير من الجوار‏

والمسجد الأقصى تضرج بالدما‏

من أخمص القدمين حتى المئذنة‏

من شرقه ،من غربه، وشماله وجنوبه‏

ومن اليمين من اليسار‏

وطني الكبير أنا أحاور دفتيك‏

وما يئست من الحوار‏

وطني يدي امتدت ولكن‏

لا تلامس راحتي أبدا أصابع راحتيك‏

أصابني وطني الدوار‏

وتدور عيني كي تفتش‏

عن سواك‏

ودون أن أدري تخادعني‏

فأركض باشتياقاتي إليك‏

وصرت يا وطني أحار‏

فعلى رحابة بحرك الهدار يا وطني‏

ونيلك والفرات ظللت عطشى‏

ليس من ماء لديك‏

بحثت في قاع البحار‏

فما وجدت سوى المحار‏

وطني أريد من العروبة موطنا‏

يحمي عروبة موطني‏

بالفعل لا بالقول‏

قد بهت الكلام‏

وأصبحت مشروخة لغة الشعار‏

وطني اتُهمت لأنني‏

ناديت باسم مدينتي بالأحرف الأولى‏

وبالعشق البدائي المسار‏

طلبوا اعتذاري عن هواي‏

بأي حق يطلبون الاعتذار؟‏

قتلوا صغاري دونما أي اعتذار‏

هدموا دياري دونما أي اعتذار‏

حرقوا زروعي‏

جففوا ماء ينابيعي وماء النهر‏

من غير اعتذار‏

طحنوا عظامي‏

أحرقوا في الأرض حبات البذار‏

قلعوا جذور التين والزيتون‏

واجتاحوا الديار‏

ومضوا بلا أي اعتذار.‏

وأنا هنا وطن تمزق بالجدار.‏

***‏

وطن ولا لغة تجمعه سوى لغة القصيدة والخطاب‏

لغتي وإن كانت تجمعنا العروبة والعذاب‏

تبقى هي الوطن المقدس كالتراب‏

لغتي هي البيت الذي‏

أرتاح فيه من عذاب الإغتراب‏

لغتي هي الشعر المتاح لنا قراءته‏

المباح لنا كلقمة عيشنا وكما الشراب‏

قد أعشق الأشعار‏

أقرأها‏

وأكتبها‏

بكل لغات هذي الأرض لكن‏

ليس من لغة سوى لغتي‏

تلامس رعشة الأحزان في قلبي‏

وتسبر ما بروحي من عذاب‏

ليس من لغة سوى لغتي‏

تدغدغ روح أحلامي وتخلقها‏

وتبعثها من الأرض اليباب‏

قد يعشق الشعراء ألف جميلة‏

لكن واحدة‏

تهز القلب من أركانه‏

وتزلزل الروح العصية تستعيد دم الشباب‏

أو تصنع الجنات في زمن الخراب‏

قد يشرب الظمآن في الصحراء أية قطرة‏

لكنه يهفو إلى أن يرتوي‏

ماء تقطر في السحاب‏

لغتي كبيتي ألتقيه‏

أعانق الشباك فيه‏

أضم أطفالي لصدري‏

ألتقي أيام عمري‏

إن يطل زمن الغياب‏

لغتي ألامس في ثناياها الحنين‏

لغتي أفتش بين أحرفها ألملم‏

عن أصابعها القوافي والسنين‏

وتداعب الأطيار من أفنانها‏

أوتار روحي والحجارة والقباب‏

هذا التمازج بين دمع العين والكلمات والمعنى‏

وصفحات الكتاب‏

هذا التماهي بين نور الشمس واللحن المغنى‏

والشعاب‏

ليس من لغة سوى لغتي تؤنسنه لا‏

تدوزنه بأوراقي وقلبي‏

ليس من لغة سوى لغتي‏

تحوله إلى لوحات حب‏

للتبادل بين كل العاشقين‏

لغة التغزل دون لبس أو ضباب‏

لغتي التي مثل ألأنامل في يدي‏

طوع البنان‏

لغتي التي أشتاقها دوما ويعشقها اللسان‏

وهي التي تحتاجها أبدا فضاءاتي‏

ويحملها الكيان‏

هي في دمائي‏

مثلما الكريات تجري في انسياب‏

ووعاء أسراري التي تبقى‏

إذا عز الخطاب‏

لغتي التي فيها أحطم قيد روحي‏

لغتي التي فيها ألخص كل أسرار العتاب‏

وهي التي إن زل في حرف لساني‏

من سواها‏

ألف قيد يحتويني‏

لغتي التي تنساب من‏

أنسي وصدقي ويقيني‏

لغتي كبيتي حيث بيتي‏

ليس حلما أو سراب‏

لغتي ولا جدران تفصلني إذا اتصلت بقلبي‏

أصبحت وطنا‏

وعلت على أسوارهم وقيودهم وهنا‏

جمعت قلوب العاشقين بحضنها‏

بيتا ومفتاحا وباب‏

ولذا أخاطب أمتي‏

وأعاتب الصمت المدوي كالصراخ‏

وأقول يا لغة العروبة سورهم هذا يمزق‏

قد يمزق موطني لكنه نير على كل الرقاب.‏

* محاضرة في الصحافة والإعلام – جامعة بيرزيت- فلسطين المحتلة‏

2006-10-30