ارشيف من : 2005-2008

من رسائلكم ...

من رسائلكم ...

الانتقاد / بريد القراء ـ العدد 1118 ـ 15 تموز/ يوليو 2005‏

حضن "صافي"‏

لم تكن الطَرَقات الخافتة المنبعثة من خلف الباب الخشبي، كتلك التي ألفها مسمع أم عباس، وإن كانت قد اشتمّت في الأثير عبقاً حبيباً، لقد كان ذلك الصوت، في تلك الليلة الخريفية، أشبه بنعيق غراب فوق ركام بيت خراب، في قرية نائية مهجورة..‏

كان الوقت فجراً، حين أخذت بعض خيوط النور تنسلّ بين صفوف جحافل الليل ناعية القمر، ملك الظلام، ومعلنة بدء عهد جديد من النور، تحت لواء امبراطورة النهار المتوّجة... غير أن تحليق الخفافيش فوق كوخ أم عباس لم يتوقف، لا لأن بزوغ الشمس لم يرق لها، وإنما لكون خطب جلل قد حصل.‏

لم تستفق أم عباس، لأنها لم تكن قد نامت بعد.. فهي لا تزال قابعة في احدى زوايا كوخها، تسبّح الله وتنتظر بفارغ الصبر عودة فلذة كبدها.. عباس..‏

وهو لم يعدها بزيارة في تلك الليلة، لا، ولكن جفونها هي التي أبت أن تطبق على عينيها، فلما سمعت صوت الباب، وجمت، تنهدت، وخنقتها العبرة.. لحظات من الألم، عادت بها الى الماضي السحيق، يوم وضعت عباس، قبل سبعة عشر عاماً خلت.‏

صدحت زغاريد داخل الكوخ القائم في طرف القرية، تردد رجع أصدائها في بطن الوادي، فإذا بصوت ضعيف ينادي"وين بو عباس، بشروا بو عباس".. وما هي الا برهة.. توقف المولود عن البكاء.. طرق الباب كما طرق في ليلة ليلاء بعد سبعة عشر عاماً، ودخل الرجال الدار، صامتين، حاملين فوق أكتافهم جسد أبي عباس، ممزقاً، ملطخاً بالدم، وكانت روحه قد بلغت التراقي، فنظر في عيني ابنه البكر، وكأنه يوصيه بوصية خالدة، ثم لفظ أنفاسه، وعاد الوليد الى البكاء.‏

وتوارثت السنون بعد ذلك عرش مملكة الوجود، وكل يصقل ايمان عباس، ويزيد ساعديه قوة، وعوده صلابة، ويغذي جنانه حباً للأرض والوطن، وما إن انتهى العام السابع عشر على ولادة عباس، حتى كان قد غدا رجلاً رجلاً، عظيم الخلق، واسع الجنان، عارفاً بحقائق الايمان، صلباً صنديداً فذاً، لا تعرف الرهبة الى قلبه منفذاً.‏

كان عازماً على الانتقام لوالده من أولئك الغزاة المعتدين، قتلة الأنبياء.. وكان لا يزال واضعاً نصب عينيه تنفيذ وصية والده، وما أبلغها من وصية... صحيح أنه لا يعرف لأبيه صورة أو هيئة، وأنه لم يعد يذكر صدره الممزق، ونجيعه النازف وجرحه الراعف، غير أنه عرف والده حق المعرفة، ووعى مظلوميته ببصيرته النيرة... لقد رأى عباس جراح والده في معوله ومنجله، رآها في جدران الكوخ، في الجبال، في السهول، في تراب الأرض... وفي عيني أمه الغائرتين... وأحس بروح والده معانقة ثرى الحقل حيناً، وسابحة حول الثريا في السماء أحياناً، حتى ألفى روحه، هي الأخرى، قد غادرت صدره، تنتقل بين الثريا والثرى، تحاكي روح أبي عباس... وأمست شرايين عباس متغلغلة في الأرض، متأصلة في باطنها، تصطلي منها الدفء وحنان الأبوة.. وتستمد منها كما الأشجار والرياحين والأزهار، الحياة والقوة والعنفوان.‏

جلس ذات ليلة على الخوان يتناول العشاء ووالدته، بعد عودته من الحقل مرهقاً، فلما فرغ حمد الله، ثم نظر الى امه نظرة حائر خجل، قال:"أمي .. بدي.."، وصمت، وطأطأ رأسه، ثم أرده: "خايف قلك.. وترفضي.."، قاطعته أمه وقد ارتسمت فوق ثغرها المرتعش ابتسامة رقيقة: "لا تخجل يا عباس، قلي، بدك تتجوز،.. ها!.. إي والله لقيتلك عروس فلقة قمر.."، وتوقفت عن الكلام، إذ أبصرت في مقلة وحيدها عبرة تهم بالانحدار فوق وجنته السمراء، تسمر ناظراها في لحظات من التأمل الذاهل، والصمت المطبق، مزقه صوت عباس: "بدي اطلع على صافي يا أمي.."، ولم ينتظر جواب أمه طويلاً، اذ ما لبث وجهها ان تهلل، وهتفت بصوت ملؤه نشوة النصر: "روح يا حبيبي.. الله ينصرك".‏

في تلك الليلة، غادر عباس حضن أمه، ليرتمي في حضن جبل صافي، وكلا الحضنين واحد.. وقف عباس على صخرة عاتية صامدة، ممتشقاً سلاحه، شاخصاً ببصره نحو الجنوب، نحو فلسطين، نحو القدس..‏

وبعد أيام قليلة من الجهاد، عاد الى حضن أمه.. شهيداً.. منتصراً.. كما أوصاه أبو عباس..‏

حسين علي جفّال‏

* * * * *‏

من يشتري أدباً‏

علمته الشعر حتى شب وانتصبا‏

فقالت الناس سبحان الذي وهبا‏

وكنت بالعطف أرعاه وأحرسه‏

من العيون التي تنوي له العطبا‏

وكان كالطفل أنّى سرت يتبعني‏

يقول (بابا) متى نستعرض "الخببا"‏

وكان يألفني جداً وكنت له‏

أماً تسير به نحو العلى وأبا‏

والله يشهد أني ما عبت به‏

وجهاً ولليوم لم أرفض له طلبا‏

لأنه كان كالحسون في قفصي‏

متى رآني يؤوساً أرسل الطربا‏

إني فخور بتلميذ يبادلني‏

كل المحبة اذ أهديته الأدبا‏

وما تلكأت يوماً على مطالبه‏

وغير ماء صفاء العين ما شربا‏

لما أحس بأن الريش زينة‏

وراح يضرب في منقاره الذنبا‏

ظننت أن صداعاً قد ألَمَّ به‏

فرحت أنفض عنه الحزن والكربا‏

حملته فوق كفي كي أداعبه‏

وأجعلنّ له في القلب منتدبا‏

لكنما حضرة التلميذ فاجأني‏

بعضة أشعلت في مقلتي لهبا‏

ماذا أقول وقد أصبحت في وطني‏

في ما تعلمت أشكو الهم والتعبا‏

إن بعت شعري فحرف الضاد يشتمني‏

وكيف إن بعت قلبي لم أكن جلبا‏

والله ان رغيف الخبز حيرني‏

لأنه صار كالدنيا مفترسا‏

لذا أتيت وأشعاري على كتفي‏

للبيع أعرضها من يشتري أدبا؟‏

شيء وحيد بهذا العصر أرقني‏

بل صار ذلك في تأخيرنا سببا‏

اذ إن من يحمل الأفكار مضطهد‏

والمستبد به من يحمل الحطبا‏

ماذا تريدون والأطفال جائعة‏

أليس من حقها أن تأكل العنبا‏

لا يستطيع الفتى في ظل دولتكم‏

إشباع أطفاله الا اذا نهبا‏

عجبت كيف ذئاب الحكم تقمعنا‏

والشعب بات يعاني الجوع والجربا‏

يا منقذاً من نيوب الجهل مجتمعاً‏

هلاّ علمت لماذا حقك اغتصبا‏

إني أتيتك مشنوقاً بقافيتي‏

وكيف يشنق فنان بما كتبا‏

إني أتيتك مصلوباً على أدبي‏

وهل يتوب على الآداب من صُلبا‏

إن الشعوب التي ترضى بواقعها‏

ولن تغير ما تغييره وجبا‏

لن تبلغ المجد يوماً في تقدمها‏

حتى ولو أمطرت علياؤها ذهبا‏

إن ظل شعبي على ما فيه من كسلٍ‏

لا بدَّ لا بدَّ من أن يأكل الخشبا‏

الشاعر خليل عجمي‏

* * * * *‏

بغالب ذي الهمة القوية‏

مهداة الى روح الشهيد القائد غالب عوالي‏

ها هي دماء الشهادة تسيل من جديد‏

على أرض مدينة الإباء والصمود‏

التي روت منطقة الضاحية الجنوبية‏

فانتثر الدم القاني ملوناً تلك البقعة اللبنانية‏

نعم كانت الفاجعة‏

باستشهاد بطل من بواسل المقاومة الإسلامية..‏

يا فارساً من فرسان مقاومتنا الأبية‏

أيدي الغدر طالت جسدك وطلعتك البهية‏

فلتقطع تلك اليد التي مدت اليك‏

وتجرأت على المس بغالب ذي الهمة القوية..‏

اليك أيها الغالب كل تحياتنا‏

اليك منا جزيل التقدير والوفاء‏

الى دمائك الطاهرة الأبية التي لونت الضاحية الجنوبية..‏

يا صاحب الوجه النيّر‏

يا أيها الشوق الساكن في قلوبنا‏

أرح صدورنا‏

كل الكلمات نرسلها اليك يا غالب‏

أيها القائد الذي أهلك الأعداء‏

فأنت الغالب ونحن الغالبون‏

يد الله فوق أيديهم‏

وسيقطع الله يد الغدر التي أطاحت بك‏

أخ غالب..‏

كل القلوب تهفو اليك‏

وكل العيون بكت عليك‏

وجميع الأهل مشتاقون اليك‏

أيها القائد.. سلام الله عليك‏

زينب حسن فرحات‏

2006-10-30