ارشيف من : 2005-2008
التفكُّر كمنهج وطريق إلى الله
يعيش كل واحد منا في هذا العالم الدنيوي في إلفة تامة مع ما فيه من مخلوقات وموجودات، فننظر اليها ببساطة، على أنها أمور عادية لا تستحق منا أي تأمل أو تفكير، وما ذلك إلا نتيجة اعتيادنا عليها، وإلفتنا لها منذ نعومة أظفارنا، ولكن إذا تفكَّرنا بكل ما يحيط بنا في هذا العالم الدنيوي البسيط ـ نسبة الى غيره من العوالم ـ سنجد أننا نعيش في عالم قريب من الخيال، الخارج بطبيعته عن إرادة الإنسان، والمتصل بعلته وسببيته وأصل وجوده بخالق الكون، ومدبِّر الأمر جلَّ وعلا، الذي أمرنا بالتفكُّر في أنفسنا بما خلق فقال تعالى "أولم يتفكروا في أنفسهم ما خَلَقَ الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجلٍ مسمى". وما هذا التفكر إلا لنجد الدليل عليه وإليه، في كل صغيرة وكبيرة تعيش بين ظهرانينا.
وهذا التفكر الذي لا يعدو كونه عملية عقلية بسيطة تتطلب بعض التركيز الفكري، هو مطلوب منا، من ناحية، وحجة علينا، من ناحية أخرى، حيث إن الله أعطانا نعمة العقل والتفكير لنرى عظمته من خلال عظمة ما خلق، وأمرنا بالتفكر لعلمه بغفلتنا عن واقع العالم الذي نحيا فيه، حيث إننا ألِفْنا هذا العالم وطبيعته، واعتدنا على عجائبه وغرائبه التي لا تُعد ولا تُحصى، وهي كلها نِعَمٌ من الله عز وجل علينا... نِعَمٌ اختص الله بها الإنسان، وخلقها لأجله، وذكر بعضها في كتابه الكريم، وتحدث عن عظيم فائدتها على الإنسان، الغافل عنها، وعن عظمتها، فقال تعالى في كثير من الآيات: "وسخَّرَ لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه"، "وسخَّرَ لكم الليل والنهار"، "وسخَّرَ لكم الشمس والقمر دائبين"، "وسخَّرَ لكم الأنهار"، "وسخَّرَ لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره"، "وهو الذي سخَّرَ البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً"... الى ما هنالك من تسخير لما في السماوات والأرض من موجودات، يصب في خدمة الإنسان.
فهذا التسخير الذي انقسم الى قسمين ـ بحسب الآية الأولى ـ كان شاملاً لما في السماوات ولما في الأرض من دون أي استثناء.
فالنجوم والكواكب والمذنَّبات والأجرام السماوية، وغير ذلك من الموجودات في السماء، هي مسخرة بأمر الله تعالى، وفق نظام كوني دقيق، لينعم الإنسان على ظهر هذه البسيطة بفائدتها، سواء كانت هذه الفائدة مباشرة أو غير مباشرة، معلومة حقيقتها أو غير معلومة، وما الليل والنهار، والضوء والنور، والدفء والبرد، والرياح والسحاب، والأمطار والثلوج، إلا مصاديق ظاهرة لتلك الفائدة.
أما التسخير الذي في الأرض، فهو يشمل كل الموجودات فيها، من جماد ونبات وحيوان، فمن الجبال الرواسي التي تُثبِّت الأرض لئلا تميد، وتخزن المياه العذبة في أجوافها، وتحتفظ بالثلوج على قممها، الى النباتات والأشجار التي فيها الكثير من الآيات العجيبة في صنعها وإتقانها وخروجها الى عالم الوجود، على مرأى من بني البشر، فهي تنبت من أرض واحدة، وتُسقى من ماء واحد، ثم تخرج بثمراتها المختلفة في طعمها ولونها ورائحتها وشكلها وفائدتها، والى الحيوانات التي تسلط الإنسان عليها، فملك رقابها بتفويض من الله تعالى، يتصرف فيها كيف يشاء، وفق سُنته التي أجراها في خلقه، فبعضها يؤكل كالطيور والأنعام، وبعضها ذُلل لخدمة الإنسان، وبرغم عِظَمِها وقوتها، فهي تنقاد طائعة لأمر بني البشر، ولا تجد في نفسها القدرة على العصيان، فهي مسخرة من لدن الله تعالى في خدمة الناس، فالفيل الذي يُعرف بضخامته وشدته، نراه قد أرخى عنانه لولد صغير يركب على ظهره، والجمل العجيب في خلقه، نراه وقد افترش الأرض لتوضع الأحمال عليه، والثور الضخم يجر خلفه فدان الحراثة، ويطيع أمر الفلاح، فيسير كيفما يأمره، ولا يجد في قُوَّته معيناً له على الإفلات من قبضته، الى غير ذلك من المخلوقات التي سُخرت لخدمة الإنسان، وهي أكثر من أن تُحصى.
إن هذا التسخير الإلهي لما في السماوات والأرض في خدمة الإنسان، الذي كان تكريماً وتفضيلاً له على كثير مما خلق، يتطلب من نفس هذا الإنسان تفكُّراً... ومن بعد التفكُّر يتطلب حمداً وشكراً.
عدنان حمّود
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1160 ـ 5 أيار/ مايو 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018