ارشيف من : 2005-2008

نبي الرحمة محمد (ص) الزاهد الأكبر

نبي الرحمة محمد (ص) الزاهد الأكبر

الزهد في الشيء هو الإعراض عنه، والزهد في الدنيا، هو الإعراض عنها وتركها، والتفرغ للعبادة، والتعريف الثاني لمفهوم الزهد في الدنيا الذي هو أخص، ينطبق على نبي الرحمة محمد (ص) الذي كان أزهد الأنبياء (عليهم السلام) ـ بحسب الرواية الواردة عن أمير المؤمنين علي (ع) ـ وليس الزاهد في الدنيا لعدم حصوله عليها كالزاهد فيها مع تمكنه من الحصول عليها، وبهذا الفرق يتضح الخلاف بين البعض فيمن كان أزهد الناس في زمانه.‏

وفي هذا السياق يأتي زهد رسول الله محمد (ص) في الدنيا، الذي كان زهداً فيها مع التمكن من الحصول عليها، إضافة الى كونه زهداً فيها وإعراضاً عنها من أجل التفرغ لعبادة الله عز وجل، هذه العبادة التي كانت مطلوبة منه بنحو خاص، حيث جاء الأمر الإلهي له (ص) بالعبادة في أكثر من سورة وآية فقال تعالى في سورة المزمِّل ـ مثالاً ـ: "يا أيها المزمِّلُ * قُم الليل إلا قليلاً * نصفَهُ أو انقُصْ منه قليلاً".‏

وعلى كثرة الروايات التي تتحدث عن زهد رسول الله محمد (ص) في الدنيا، من حيث التطبيق الفعلي لمفهوم الزهد والإعراض عن الدنيا، تبقى بعض الشواهد المهمة في حياته (ص) دليلاً على أنه كان الزاهد الأكبر في دنيا الناس، لا يأبه لما فيها من نعيم وخيرات، ولا يعيرها أدنى اهتمام، وهو القائل: "خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الأرض مع العبيد، وركوبي مؤفكاً (من دون برذعة على الدابة)، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان لتكون سُنة من بعدي"، ومن هذه الشواهد نذكر ثلاثة منها:‏

ـ أولاً: جاء في كتاب "الدر المنثور" عن ابن عباس: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب (...) ـ مع غيرهم من كبار المشركين ـ اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا منه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. قال: فجاءهم رسول الله (ص) فقالوا له: يا محمد إنا بَعثنا إليك لنُعذرَ منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث (أي النبوة) تطلب به مالاً، جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب الشرف فنحن نُسوِّدك، وإن كنت تطلب مُلكاً ملَّكناك. فقال رسول الله (ص): ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلبُ أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا المُلك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلَّغتكم رسالة ربي ونصحتُ لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردُّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئاً عرضناه عليك، فسل لنفسك وسل ربَّك أن يبعث معك مَلَكاً يُصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً من ذهب وفضة، يغنيك عما تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم. فقال لهم رسول الله (ص): ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً.‏

ـ ثانياً: جاء في كتاب "إحياء العلوم" في ذكر صفات رسول الله محمد: "كان (ص) أسخى الناس، لا يَثبُتُ عنده دينار ولا درهم، وإن فَضِلَ شيء ولم يجد من يُعطيه وفجأَ الليلُ لم يأوِ الى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، ولا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط، من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله. لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه، ثم يعود الى قوت عامه، فيؤثرُ منه، حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء".‏

ـ ثالثاً: ورد الكثير من الروايات ـ بصيغ متعددة ـ التي تحدثت عن نزول جبرائيل (ع) على رسول الله (ص)، وعرضه عليه مفاتيح خزائن الدنيا، ولكن النبي (ص) كان يرفض ذلك، ومنها قول جبرائيل (ع) له: "إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نُعطه نبياً قبلك، ولا نُعطي أحداً من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله، فقال (ص): اجمعوها لي في الآخرة. وخُيِّر (ص) بين أن يكون مَلِكاً نبياً أو عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً.‏

وفي ختام الحديث عن زهد نبي الرحمة، نذكر رواية فيها من العبرة ما يدل على عظيم زهده (ص)، وهو الذي كان يحث أصحابه على الزهد في الدنيا، ويسبقهم الى الزهد فيها بالفعل قبل القول، ففي أمالي الصدوق عن العيص بن القاسم قال: "قلتُ للصادق (ع): حديثٌ يُروى عن أبيك أنه قال: ما شبع رسول الله (ص) من خبز بُر (قمح) قط، أهو صحيح؟ فقال: لا.. ما أكل رسول الله خبز بُر قط، ولا شبع من خبز شعير قط".‏

عدنان حمّود‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1161 ـ 12 أيار/مايو 2006‏

2006-10-30