ارشيف من : 2005-2008
النبي عيسى (ع) والإعجاز الإلهي
لم تكن ولادة النبي عيسى (ع) ولادة عادية، وإنما كانت ولادة إعجازية فيها من مقدِّمات النبوة والرسالة ما يتساوى، بل ويفوق ـ في بعض الجوانب ـ ما يحيط بولادات الأنبياء، أو مسار نشأتهم قبل نبوتهم، من إعجاز إلهي ـ كما حصل مع النبي موسى (ع) بعد ولادته، حيث وضعته أمه في التابوت، وألقته في البحر بأمر من الله، ثم عاد بعد ذلك الى أمه سالماً ـ يكون مؤداه (الإعجاز) ـ الذي قد يتكرر بأكثر من صورة ـ إثبات صدق النبوة، وتقوية دعائمها في قلوب متَّبعي صاحب الدعوة، فضلاً عن حجتها القاطعة على منكري هذه الدعوة، والجاحدين لها. وتأتي الولادة المعجزة لنبي الله عيسى (ع) في مقدماتها الأولى لتشير الى هذا السياق الإعجازي الصادر عن الله تعالى، حيث يورد القرآن الكريم ـ والروايات أيضاً ـ في سياق عرضه لقصة النبي عيسى (ع) أن امرأة عمران قد نذرت ما بطنها (الحَمْل) محرَّراً لخدمة المعبد، وهي تظنُّ أنه ذَكَرٌ، حيث إن زوجها عمران قد أخبرها بأنه بُشِّر بولد منه يكون ذكراً سوياً مباركاً يُبرئ الأكمَهَ (المولود أعمى) ويُحيي الموتى بإذن الله، ويكون نبياً (مع ترجيح الروايات لنبوة عمران أيضاً، وأنه أوحي له بهذا الأمر) غير أنها عندما وضعت حملها ـ بعد وفاة زوجها عمران ـ تفاجأت بأنها وضعت أنثى، وهي التي كانت تظن أنها تحمل غلاماً، حيث كانت تنتظر تحقُّق البشارة، فحزنت لذلك وتحسرت، وخاطبت ربها "قالت ربي إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم"، ثم أخذت وليدتها وسلمتها للكهنة، الذين كان زكريا فيهم، فاختلفوا على كفالتها "وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون"، ثم كفلها زكريا (ع)، بعد أن حصل على هذا الحق من خلال القرعة التي وافق الجميع عليها. ولا يخفى هنا أيضاً التدخل الإلهي، المكمل للسياق الإعجازي الممهد لولادة السيد المسيح (ع)، حيث يفيد السياق القرآني في الآية الكريمة السابقة لذكر اختلافهم على كفالتها بأن الله تعالى هو من كفَّل زكريا بمريم "فتقبلها ربها بقَبولٍ حَسَنٍ وأنبتها نباتاً حسناً وكفَّلها زكريا".
ثم إن زكريا (ع) ضرب لمريم (ع) حجاباً من دون الناس، لتسكن وتتعبَّد، وذلك بعد أن أدركت، وكان من المعجزات/ المقدِّمات المرافقة لحدث الولادة/ المعجزة لنبي الله عيسى (ع) أن زكريا كان يجد عندها رزقاً كلما دخل عليها المحراب، ولم يكن أحد غيره يدخل عليها، ولما سألها عن ذلك قالت "هو من عند الله"، وهي الصادقة الطاهرة، التي لا يُشك بصدق قولها. وتنساب الحركة التاريخية بشكل ينبئ بأن شأناً كبيراً ستختص به هذه الطاهرة، التي وصلت بعد كل هذه المقدمات الإعجازية، الى المرحلة الحاسمة والمصيرية في حياتها (ع)، حيث تتفاجأ ذات يوم بظهور شخص غريب في مكانها، فتتعوذ به بالرحمان، فيخبرها بأنه رسول الله اليها ليهب لها غلاماً، فتسأل مستنكرة عن كيفية ذلك واستحالته، وهي التي لم يمسسها بشر، فيأتيها الجواب من رسول الله اليها أن ذلك سيكون بأمر الله، وأن وليدها سيكون نبياً مؤيداً بروح القدس، وسيُعلَّم الكتاب والحكمة التوراة والإنجيل، ويكون رسولاً الى بني اسرائيل، وبعد هذه المقدِّمات المطمئنة نفخ الروح فيها فحملت بعيسى (ع).
غير أن مريم (ع) التي آتاها الله من البينات ما طمأنها الى أن ذلك يحدث بأمره، حملت هماً آخر وهو تصديق الناس لها، حيث إن هذا الأمر يحتاج الى تدخل الهي، وذلك بعد أن انتبذت مكاناً قصياً، وأجاءها المخاض الى جذع النخلة، وقالت يا ليتني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً، وهنا، في هذه اللحظات الحرجة يستمر الإعجاز الإلهي المتمثل بولادة هذا النبي بالظهور، حيث ينطق الوليد من تحت أمه مخاطباً لها بأن لا تحزني، وطالباً منها أن تأكل وتشرب وتقرَّ عيناً، وحاملاً معه الحل الجذري لما ترى أنه مشكلة قد وقعت فيها، وهو أن تقول لمن تراه من الناس بأنها قد نذرت للرحمان صوماً، فلن تكلم اليوم إنسياً، ليتكفل هو بالإجابة. وهنا برز التدخل الإلهي المليء بالدلالات الإعجازية، حيث أدى نُطق الوليد غرض إثبات أن هذه الولادة كانت معجزة حصلت بأمر الهي من جانب، وأن هذا المولود ـ أيضاً ـ هو نبي مرسل، من جانب آخر، وقد اختصه الله تعالى بالنبوة والرسالة ليكمل دعوة الأنبياء من قبله.
ويستمر السياق الإعجازي المرافق لحياة النبي عيسى (ع) ليصل الى خاتمته ـ ولو المرحلية ـ من خلال الطريقة الفريدة والمميزة التي خرج بها من الدنيا، حيث يشير القرآن الكريم بوضوح وصراحة الى أن النبي عيسى (ع) لم يُقتل ولم يُصلب، بل كل ما في الأمر أن الله تعالى رفعه إليه، وشَبَّهَ للذين كانوا يريدون قتله واحداً به، فقتلوه "وما قتلوه وما صلبوه ولكنْ شُبِّهَ لهم".
إن نبي الله عيسى (ع) الذي رافقته معجزات الله طوال حياته، وكان آية للناس في خلقه، ورسولاً الى بني اسرائيل، لم تشفع له كل هذه الأمور، حيث حاولت شرذمة من اليهود قتله، بغية إطفاء نور الله في أرضه، لكن "ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون".
عدنان حمّود
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018