ارشيف من : 2005-2008

الرواية والانتفاضة لشكري الماضي(*):منهج نقدي تطبيقي مرن وأدوات تحتفي بالنصوص

الرواية والانتفاضة لشكري الماضي(*):منهج نقدي تطبيقي مرن وأدوات تحتفي بالنصوص

مصطفى الولي‏

في مسعى حثيث للبحث عن مواصفات الرواية الأكثر قدرة على التعبير عن حركة الواقع، يتناول د. شكري الماضي عدداً من الروايات التي تعبر فنياً عن واقع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 ـ 1994). وهي روايات لكتاب بعضهم معروف بتجربته الروائية السابقة للحدث الواقعي (الانتفاضة)، وآخرون دخلوا برواياتهم عن الانتفاضة عالم الكتابة الأدبية لأول مرة، فكانت رواياتهم المدروسة بواكير أعمالهم الفنية.‏

المنهج العام الذي يعتمده المؤلف في كتابه النقدي، ينطلق من رؤية مفادها "أن الرواية بناء من القيم يشيد بواسطة اللغة، وأن قيمة الرواية في جدتها وتفردها ونزعتها الإنسانية، وأن التجديد الروائي ـ الأدبي في جوهره بحث عن عالم أفضل، وأن الممارسة الروائية ـ الأدبية تنشد فهم العالم وحيازته جمالياً، فمنشأ الرواية ومادتها وغايتها مرتبطة بالإنسان، ولهذا لا يمكن فهم الرواية وتفسيرها وتحليل أساليبها وأدواتها وإدراك تطورها بمفاهيم أدبية خالصة".. الكتاب ص 9 (لاحقاً رقم الصفحات فقط).‏

تجسيداً للمنهج العام المذكور ذهب المؤلف نحو مادة النصوص الروائية المدروسة، متجنباً استخدام أدوات نقدية واحدة مقررة سلفاً. فهو تحاور مع النصوص واستمد من كل واحد منها طريقة في التناول، تعطي لكل رواية حقها من الاهتمام، وتبرز ما في مضمونها من معان وقيم ودلالات على قاعدة الطموح الى إثارة "الأسئلة والتساؤلات التي من شأنها إثراء الحركة الأدبية والنقدية التي تشكل نسقاً تكوينياً مهماً من أنساق الثقافة العربية" ص 16.‏

وسيلاحظ القارئ ان المنهجية التي من خلالها جرى تناول روايات الانتفاضة (1987 ـ 1994)، هي منهجية مرنة اقتضتها إملاءات الظاهرة المدروسة والأسئلة التي ولدتها وطبيعة النصوص الروائية. فكل نص روائي له منطقه الفني وكيانه ومنظوره وأسئلته وخصائصه، وله فلسفته أيضاً، ولا بد من أن نلحظ ذلك في العناوين الأساسية التي اختارها الكاتب في تناول الروايات. كل رواية أفرد لها عنواناً اشتقه من خاصية النص، تارة لأهمية مضمونه ومعانيها، وأخرى لميزات البناء الفني للعمل المدروس.‏

الروائيون الذين تناول المؤلف أعمالهم المعبرة عن واقع الانتفاضة يتوزعون على مستويين: منهم أسماء معروفة في الإبداع الروائي (سحر خليفة ورشاد أبو شاور)، وسبق أن قدموا روايات مؤكد أن المهتمين قد تعرفوا اليها، ومنهم من يكتب الرواية كباكورة لإنتاجه الروائي (زكي درويش). وأما بقية الأسماء الواردة في الروايات المدروسة فهي وإن كان لها إصدارات سابقة، غير أن أعمالهم معروفة في وسط القراء العرب خارج فلسطين، وربما يعود أحد الأسباب الأساسية في ذلك الى ظروف النشر والتوزيع التي تؤثر على وصول مطبوعات الدور والمؤسسات الموجودة في الأرض المحتلة الى المدن العربية. ولعل المؤلف بتناوله أعمال هؤلاء الروائيين قام بتعريفنا الى حضورهم الإبداعي، فضلاً عن الكشف النقدي لرواياتهم التي تعبر عن الانتفاضة في فلسطين.‏

الوقفة الأولى في الكتاب كانت عند رواية (وجوده في ماء ساخن) لعبد الله تايه، الذي بحث فيها عن سياق الرواية في علاقته بسياق الانتفاضة، وخلص الى أن الرواية "ترسم السياق العام للانتفاضة من خلال تصوير تجربة العمال في الداخل وأبعادها المتعددة، بنهج فني خاص ولافت، في رسم الشخصيات الروائية المتعددة والمتنوعة" ص37.‏

ولاحظ المؤلف تجليات السرد في تعدد صوره، كما أن الشخصيات رُسمت في الرواية من خلال أفعالها ومواقعها ومواقفها وأقوالها. وإذا كان قد أشار الى ان "معظم الشخصيات مسطحة ـ ثابتة، فهو لم يعتبر هذا عيباً أو نقصاً، فالشخصيات الثابتة تؤدي أغراضها، إذ تسهم في تجسيد رؤية الرواية. وقد يفسر ثباتها في قصر الإطار الزمني للرواية الذي يمتد الى عدة أشهر قبل اندلاع الانتفاضة، وهي فترة لا تسمح بحركة متموجة للشخصيات" ص23.‏

ثمة خصوصية للرؤية النسوية للانتفاضة، تكون رواية سحر خليفة نموذجاً متميزاً، أبدى نحوه المؤلف اهتماماً يعادل تلك الخصوصية، بل طبيعة الرواية ومستواها الفني والفكري. في "باب الساحة" توقفت سحر خليفة عند الانتفاضة وهي في عنفوانها. فالأحداث الميدانية في عام 1990 كانت في ذروتها، وهو زمن الرواية.‏

تميزت رواية سحر خليفة "باب الساحة" برؤية نقدية للانتفاضة، وهو ما أكده المؤلف، منسجماً في هذه الملاحظة مع بقية النقاد الذين تناولوا هذا العمل من قبله. اهتمت الرواية "بتجسيد رؤية الشخصيات النسوية للانتفاضة، وهي رؤية جديدة ومغايرة للمألوف. ومع أن معظم هؤلاء النسوة من المشاركات في فعاليات الانتفاضة، فإن التركيز يجري على تصوير العلاقة بين الانتفاضة وأوضاع المرأة وأحوالها ورؤية المجتمع للمرأة في ظل الانتفاضة (...). وبعبارة أخرى أكثر دقة تجسد رؤية نسوية لمنظومة القيم في ظل الانتفاضة" ص40.‏

هموم المرأة في تجربة الحياة إبان الانتفاضة تفوق هموم الرجال ومعاناتهم، وهو ما أظهرته سحر خليفة في "باب الساحة" بالسرد المتعدد لأصوات الشخصيات الروائية، وهي نسائية بشكل عام. شخصية الست زكية التي تطلق عليها الكاتبة اسم أم الشباب، وهي التي تعمل "قابلة" فترمز الى المعاناة من جهة وإلى تجدد الحياة واستمرارها برغم المعاناة.. يضمن المؤلف كتابه مقطعاً معبراً في الرواية جاء على لسان "الست زكية".‏

حين تجيب أم الشباب (زكية) على سؤال سمر، الفتاة الجامعية التي تعد بحثاً علمياً، تلخص بلهجة شعبية بسيطة هموم المرأة ومعاناتها في زمن الانتفاضة، فتقول: "يعني شو بدك أقول؟ صارت ترشق حجارة وتخلص الولاد وتخبي الشباب وتتظاهر؟ مفهوم، بس همها زاد كثير. همومها القديمة بقيت على حالها وهمومها الجديدة ما بتنعدّ. حَبَل وميلاد ونفاس ورضاعة وغسيل وقش ومسح وطبيخ ونفيخ ونكد الزوج والأولاد، وهم الشباب المشردين بين الصخر والوعر، وحمى الشمس وزمهرير الشتاء، وشوك البراري وروايات الجبال. وهم القريب وهم البعيد، وهم الصغير وهم الكبير و"المقمط بالسرير". إن كان بحضنك خائفة يأخذوه، وإن أخذوه خايفة يضيعوه. ومن ساعة ما بيفوت السجن لحد ما يخرج وإنت دايره وراه من محكمة لمحكمة ومن باب لباب.. وإن كان مش بالسجن دايره وراه من مغارة لمغارة ومن زقاق لزقاق.. اذا شفتيه بتنحرقي معه وإذا ما شفتيه بتنحرقي عليه، هذه هي حياتنا، حرقة بحرقة وعذاب بعذاب، قولي الله يكون لها النسوان معين" الرواية ص 20، الكتاب ص 43.‏

دلالات البنية الفنية للرواية تميزت بقدرة الكاتبة على "صهر عناصر الزمان والمكان والشخصيات والوصف والسرد واللغة وتفاعلاتها، فأنتجت بنية سردية روائية فنية دالة، تتصف بالتفرد والتوازن والتلاحم النسبي بين التجربة المضمونية والتجربة الفنية" ص58.‏

الرواية والانتفاضة لشكري الماضي(*)‏

منهج نقدي تطبيقي مرن وأدوات تحتفي بالنصوص‏

مصطفى الولي‏

الكتاب: الرواية والانتفاضة‏

الكاتب: شكري عزيز الماضي‏

الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005، الطبعة الأولى ـ 282 صفحة ـ قطع كبير‏

في مسعى حثيث للبحث عن مواصفات الرواية الأكثر قدرة على التعبير عن حركة الواقع، يتناول د. شكري الماضي عدداً من الروايات التي تعبر فنياً عن واقع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 ـ 1994). وهي روايات لكتاب بعضهم معروف بتجربته الروائية السابقة للحدث الواقعي (الانتفاضة)، وآخرون دخلوا برواياتهم عن الانتفاضة عالم الكتابة الأدبية لأول مرة، فكانت رواياتهم المدروسة بواكير أعمالهم الفنية.‏

المنهج العام الذي يعتمده المؤلف في كتابه النقدي، ينطلق من رؤية مفادها "أن الرواية بناء من القيم يشيد بواسطة اللغة، وأن قيمة الرواية في جدتها وتفردها ونزعتها الإنسانية، وأن التجديد الروائي ـ الأدبي في جوهره بحث عن عالم أفضل، وأن الممارسة الروائية ـ الأدبية تنشد فهم العالم وحيازته جمالياً، فمنشأ الرواية ومادتها وغايتها مرتبطة بالإنسان، ولهذا لا يمكن فهم الرواية وتفسيرها وتحليل أساليبها وأدواتها وإدراك تطورها بمفاهيم أدبية خالصة".. الكتاب ص 9 (لاحقاً رقم الصفحات فقط).‏

تجسيداً للمنهج العام المذكور ذهب المؤلف نحو مادة النصوص الروائية المدروسة، متجنباً استخدام أدوات نقدية واحدة مقررة سلفاً. فهو تحاور مع النصوص واستمد من كل واحد منها طريقة في التناول، تعطي لكل رواية حقها من الاهتمام، وتبرز ما في مضمونها من معان وقيم ودلالات على قاعدة الطموح الى إثارة "الأسئلة والتساؤلات التي من شأنها إثراء الحركة الأدبية والنقدية التي تشكل نسقاً تكوينياً مهماً من أنساق الثقافة العربية" ص 16.‏

وسيلاحظ القارئ ان المنهجية التي من خلالها جرى تناول روايات الانتفاضة (1987 ـ 1994)، هي منهجية مرنة اقتضتها إملاءات الظاهرة المدروسة والأسئلة التي ولدتها وطبيعة النصوص الروائية. فكل نص روائي له منطقه الفني وكيانه ومنظوره وأسئلته وخصائصه، وله فلسفته أيضاً، ولا بد من أن نلحظ ذلك في العناوين الأساسية التي اختارها الكاتب في تناول الروايات. كل رواية أفرد لها عنواناً اشتقه من خاصية النص، تارة لأهمية مضمونه ومعانيها، وأخرى لميزات البناء الفني للعمل المدروس.‏

الروائيون الذين تناول المؤلف أعمالهم المعبرة عن واقع الانتفاضة يتوزعون على مستويين: منهم أسماء معروفة في الإبداع الروائي (سحر خليفة ورشاد أبو شاور)، وسبق أن قدموا روايات مؤكد أن المهتمين قد تعرفوا اليها، ومنهم من يكتب الرواية كباكورة لإنتاجه الروائي (زكي درويش). وأما بقية الأسماء الواردة في الروايات المدروسة فهي وإن كان لها إصدارات سابقة، غير أن أعمالهم معروفة في وسط القراء العرب خارج فلسطين، وربما يعود أحد الأسباب الأساسية في ذلك الى ظروف النشر والتوزيع التي تؤثر على وصول مطبوعات الدور والمؤسسات الموجودة في الأرض المحتلة الى المدن العربية. ولعل المؤلف بتناوله أعمال هؤلاء الروائيين قام بتعريفنا الى حضورهم الإبداعي، فضلاً عن الكشف النقدي لرواياتهم التي تعبر عن الانتفاضة في فلسطين.‏

الوقفة الأولى في الكتاب كانت عند رواية (وجوده في ماء ساخن) لعبد الله تايه، الذي بحث فيها عن سياق الرواية في علاقته بسياق الانتفاضة، وخلص الى أن الرواية "ترسم السياق العام للانتفاضة من خلال تصوير تجربة العمال في الداخل وأبعادها المتعددة، بنهج فني خاص ولافت، في رسم الشخصيات الروائية المتعددة والمتنوعة" ص37.‏

ولاحظ المؤلف تجليات السرد في تعدد صوره، كما أن الشخصيات رُسمت في الرواية من خلال أفعالها ومواقعها ومواقفها وأقوالها. وإذا كان قد أشار الى ان "معظم الشخصيات مسطحة ـ ثابتة، فهو لم يعتبر هذا عيباً أو نقصاً، فالشخصيات الثابتة تؤدي أغراضها، إذ تسهم في تجسيد رؤية الرواية. وقد يفسر ثباتها في قصر الإطار الزمني للرواية الذي يمتد الى عدة أشهر قبل اندلاع الانتفاضة، وهي فترة لا تسمح بحركة متموجة للشخصيات" ص23.‏

ثمة خصوصية للرؤية النسوية للانتفاضة، تكون رواية سحر خليفة نموذجاً متميزاً، أبدى نحوه المؤلف اهتماماً يعادل تلك الخصوصية، بل طبيعة الرواية ومستواها الفني والفكري. في "باب الساحة" توقفت سحر خليفة عند الانتفاضة وهي في عنفوانها. فالأحداث الميدانية في عام 1990 كانت في ذروتها، وهو زمن الرواية.‏

تميزت رواية سحر خليفة "باب الساحة" برؤية نقدية للانتفاضة، وهو ما أكده المؤلف، منسجماً في هذه الملاحظة مع بقية النقاد الذين تناولوا هذا العمل من قبله. اهتمت الرواية "بتجسيد رؤية الشخصيات النسوية للانتفاضة، وهي رؤية جديدة ومغايرة للمألوف. ومع أن معظم هؤلاء النسوة من المشاركات في فعاليات الانتفاضة، فإن التركيز يجري على تصوير العلاقة بين الانتفاضة وأوضاع المرأة وأحوالها ورؤية المجتمع للمرأة في ظل الانتفاضة (...). وبعبارة أخرى أكثر دقة تجسد رؤية نسوية لمنظومة القيم في ظل الانتفاضة" ص40.‏

هموم المرأة في تجربة الحياة إبان الانتفاضة تفوق هموم الرجال ومعاناتهم، وهو ما أظهرته سحر خليفة في "باب الساحة" بالسرد المتعدد لأصوات الشخصيات الروائية، وهي نسائية بشكل عام. شخصية الست زكية التي تطلق عليها الكاتبة اسم أم الشباب، وهي التي تعمل "قابلة" فترمز الى المعاناة من جهة وإلى تجدد الحياة واستمرارها برغم المعاناة.. يضمن المؤلف كتابه مقطعاً معبراً في الرواية جاء على لسان "الست زكية".‏

حين تجيب أم الشباب (زكية) على سؤال سمر، الفتاة الجامعية التي تعد بحثاً علمياً، تلخص بلهجة شعبية بسيطة هموم المرأة ومعاناتها في زمن الانتفاضة، فتقول: "يعني شو بدك أقول؟ صارت ترشق حجارة وتخلص الولاد وتخبي الشباب وتتظاهر؟ مفهوم، بس همها زاد كثير. همومها القديمة بقيت على حالها وهمومها الجديدة ما بتنعدّ. حَبَل وميلاد ونفاس ورضاعة وغسيل وقش ومسح وطبيخ ونفيخ ونكد الزوج والأولاد، وهم الشباب المشردين بين الصخر والوعر، وحمى الشمس وزمهرير الشتاء، وشوك البراري وروايات الجبال. وهم القريب وهم البعيد، وهم الصغير وهم الكبير و"المقمط بالسرير". إن كان بحضنك خائفة يأخذوه، وإن أخذوه خايفة يضيعوه. ومن ساعة ما بيفوت السجن لحد ما يخرج وإنت دايره وراه من محكمة لمحكمة ومن باب لباب.. وإن كان مش بالسجن دايره وراه من مغارة لمغارة ومن زقاق لزقاق.. اذا شفتيه بتنحرقي معه وإذا ما شفتيه بتنحرقي عليه، هذه هي حياتنا، حرقة بحرقة وعذاب بعذاب، قولي الله يكون لها النسوان معين" الرواية ص 20، الكتاب ص 43.‏

دلالات البنية الفنية للرواية تميزت بقدرة الكاتبة على "صهر عناصر الزمان والمكان والشخصيات والوصف والسرد واللغة وتفاعلاتها، فأنتجت بنية سردية روائية فنية دالة، تتصف بالتفرد والتوازن والتلاحم النسبي بين التجربة المضمونية والتجربة الفنية" ص58.‏

بطاقة الكتاب‏

الكتاب: الرواية والانتفاضة‏

الكاتب: شكري عزيز الماضي‏

الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005، الطبعة الأولى ـ 282 صفحة ـ قطع كبير‏

2006-10-30