ارشيف من : 2005-2008

التربية الجهادية في مدرسة الحج

التربية الجهادية في مدرسة الحج

الشيخ عباس أحمد شحادي(*)‏

ثمّة قاعدة أساسية معروفة لدى الفقهاء، في علم أصول الفقه، تفيد أن أحكام الشريعة تابعة للمصالح والمفاسد. سواء كانت فردية أم اجتماعية، وتترتب على هذه القاعدة حقائق كثيرة ومهمة على مستوى فهم الأحكام وأسرارها.‏

وانطلاقاً من هذه الحقيقة التشريعية نفهم الدين باعتباره عاملاً أساسياً في تهذيب الإنسان وبناء سعادته وتطور حياته.‏

وعلى هذا، فليس في الشريعة الاسلامية أحكام شُرعت من أجل الله ولمنفعته تعالى، لأن الله سبحانه غني عن العالمين.‏

"يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد"، فهو عزّ وجل غني عن الإنسان وعباداته وسائر أفعاله، وقد شُرعت العبادة من أجلنا، لهدف تربيتنا وتوجيهنا وتنمية مواهبنا المعنوية والمادية، من دون أن ينال الله منها نفع أو عائدة، كما صرح عزّ اسمه بذلك في قوله تعالى:‏

"لن ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم"، وبوحي من هذا الفهم لطبيعة العبادة ووظيفتها، نمارس عبادة الحج في كل عام، ونتلمّس أبعاد التربية الجهادية في مدرسة الحج المبارك، ونحن اليوم نعيش أقصى أيامنا ونمتحن في إيماننا وثباتنا.‏

فالحج مدرسة تجسّد دروساً تربوية وروحية شتى، وهو يؤدي الى كثير من الكمالات، ويرفع الانسان الى ذرى روحية عالية، واذا كان الحج يعني التوحيد والأخلاق والشعور بالمساواة، والرحمة بالآخرين وتحسس آلامهم، إلا أنه لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه الى ما نحن بأمسّ الحاجة اليه، وهو عنصر الثبات والصمود.‏

فالإسلام وإن كان يربي أتباعه على التسامح والرحمة والتواضع وخفض الجناح وعلى الرغبة في السلام، ولكنه لا يربيهم أبداً على الضعف وعلى الرضا بالذل والسكوت على الظلم والاضطهاد، وإنما يربيهم على القوة والعزة، وعلى الصمود أمام التحديات وعدم الانهيار أمامها.‏

ويصوغ الاسلام أرواح أتباعه على أساس تدعيم عناصر القوّة في وجودهم ويحيطهم بجميع أسباب التربية والتوجيه التي تصوغ منهم أمّة قوّية وعزيزة ومنيعة الجانب، فلا تقف من خير الحياة وشرّها موقفاً مستكيناً منفعلاً انفعالاً سلبيّاً بحيث تنفعل الأمة ولا تفعل أو تتأثر ولا تؤثر، وإنما تقف من خير الحياة وشرّها، موقفاً إيجابياً فاعلاً مؤثراً، فهي أمّة تدعم الخير وتنمّيه وتشارك فيه، وتكافح الشرّ فتنازله وتصارعه وترجمه وتتغلب عليه، وإذا غلبها الشرّ ذات مرّة أو مرّات فإنّها لا تعترف بالشرّ لأنّه قوي، وهي لا تركع أمامه لأنه غالب، وإنما تعيد لملمة صفوفها وتتأهب لجولة أو جولات أخرى من الصراع، وتظلّ تصارعه حتى يكتب الله لهذا الغلبة عليه في النهاية، وذلك وجه آخر من خُلُق الجهاد الذي يتربى المسلم عليه في مدرسة الحج.‏

فالحكمة الإلهية تريد أن توجّهنا بالحج وسائر مناسكه، الى فهم حقيقة الحياة، وأنّها ليست بالسهولة دائماً، كما أنّها ليست مملوءة باللذات دائماً، وأنّ حريتنا لا تعني بالضرورة أن نحصل على كلّ ما نريد، وإنما يجب أن تعني أيضاً ترك ما نستطيع الحصول عليه في سبيل هدف عظيم وغاية نبيلة.‏

وحين يضعنا الله سبحانه في أول أعمال الحج، وهو الإحرام، أمام بعض عاداتنا وملذاتنا وما يرتبط بغرائزنا، ويطلب منّا أن نترك ممارستها برضا واختيار، أثناء الإحرام، ولو لفترة محددة، فإنه بذلك يُعلمنا أن للعزّة ثمناً علينا أن نستعدّ لبذله، وأن نربّي أنفسنا على بذله، وأنّ للقوّة ثمناً لا بدّ أن نقدّمه، ولا بدّ أن نروّض أنفسنا على تقديمه، وأن القدرة على الصمود أمام النكبات تنبع من داخلنا ومن قدراتنا الروحية قبل أن تأتي من العوامل الخارجية، دون تقليل من أهمية العناصر المادية الخارجية.‏

إن الله سبحانه لا يريد منّا بفريضة الحج، الذي يغلب عليه طابع التعب والجهد، وما يترتب على الإحرام فيه، لا يريد بذلك أن نعذب أنفسنا بالحرمان، لأن عملية تعذيب النفس البشرية كهدف وغاية تعتبر من أبعد الأشياء عن روح الاسلام وأهدافه. والحج ليس عملية تعذيب للنفس بالحرمان، أو بالأعمال الشاقة، وإنما هو عملية تربية للنفس بالحرمان، بمعنى أن تتربّى النفس على الحرمان، وعلى المعاناة، حين يكون الحرمان ثمناً للعزّة والقوّة والكرامة، وحين يكون الصبر على المعاناة وسيلة من وسائل الصمود أمام الشرّ، وطريقاً من طرق مصارعة الباطل والتغلّب عليه.‏

والآن... ماذا يعني الحج بالنسبة إلينا في راهننا الحاضر؟‏

إننا نعيش منذ نصف قرن من الزمن في مواجهة فعلية مع العدو الصهيوني الذي لم يعرف التاريخ مثيلاً له من قبل، على مستوى الإرهاب وفداحة الاعتداء على الكرامة الإنسانية، وهو عدو لا يقف أمامنا بمفرده، وإنما تسانده قوى عالمية تمده بالسلاح والمال والدعم المعنوي، وهي القوى التي تريد أن تنهب ثرواتنا، وأن تحطمنا عقيدياً وحضارياً، وتحوّلنا الى أمة تابعة لمراكز الفساد في العالم.‏

ونحن نعيش في حالة استعداد دائم لمعارك مقبلة مع هذا العدو، ندرك أن علينا أن نقدّم خير ما لدينا في سبيل قضايانا ومقدساتنا، وخصوصاً أننا لا نزال نعيش أروع صور الصمود الذي أسعفنا عليه ديننا وتراثنا وموروثاتنا المقدّسة التي لا تزال تنبض في داخل شخصيتنا الاسلامية، فلم نركع أو نتراجع بالرغم من هول الضربة وفداحة الخسارة وعمق الجراح الممتدة من قبّة الصخرة وملتقى الأنبياء وصولاً الى مشارف بغداد وأعتاب البصرة.‏

وإذا كنا قد تمكّنا من دحر عدونا عن جزء من أرضنا في جبل عامل، بفعل مجاهدينا الأبرار، وشهدائنا الأخيار، ولكن ذلك لا يعني أن نركن الى هذا الإنجاز ونقف عنده، وإنما يجب أن تزداد روحية الجهاد لدينا وأن تزداد قدرتنا على الصمود، لأن عدونا لا يزال جاثماً فوق أرضنا المقدّسة في فلسطين.‏

وليس المطلوب في بناء كفاءتنا في وجه العدو أن نستعد بالسلاح وحسب، فإن ذلك واجب لا شك فيه، نؤديه امتثالاً لأمر الله تعالى حيث يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم"، بل المطلوب أيضاً أن نضيف الى ذلك تغييراً في أسلوب تناولنا للحياة ومواجهتنا لها.‏

وهنا ندخل في اختبار يضعنا الحج فيه أمام الاختيار الصحيح، وهو اختبار الحياة السهلة والحياة الصعبة، وهكذا نكون أمام اختبار الحياة السهلة التي يتيحها لنا مجتمع الترف، أو الحياة الصعبة التي يكلفنا بها مجتمع الحرب، ومن الطبيعي دائماً أن يكون للحياة السهلة ثمن وللحياة الصعبة جائزة.‏

إن مجتمع الترف مجتمع عاجز، لا يصلح للقيام بأي تبعة، ولا يقوى على تحمّل أية مسؤولية، بل يؤول أمره دائماً الى أن يكون لقمة للطامعين والفاتحين، وأن يكون وقوداً للتغيرات العالمية. وإن أعظم الأخطار المصيرية تبدأ بتهديد الأمة عندما تدخل تلك الأمة دور الترف، وتشيع فيها حياة المترفين، إنها حينذاك تفقد قدرتها على الصمود وتفقد احترامها للمُثل العليا في الحياة في سبيل المحافظة على لذاتها المادية. وتتنازل عن أي دور مُشرف لها يقتضي التضحية والحرمان في سبيل أن تحافظ على حياتها المترفة.‏

أما مجتمع الحرب، فهو مجتمع محروم من المتع التي يتيحها الترف للمترفين، ولكنه في المقابل هو مجتمع يصنع التاريخ، ويساعد أفراده على صنع حياتهم وحياة الآخرين وإبقائها شريفة وعزيزة قادرة على ردع العدوان وتحطيم المعتدي في كل حين.‏

وقد حذّر الله سبحانه عباده المؤمنين من المترفين ومن أن يتحولوا الى مترفين، لأنهم بذلك يفقدون قدرتهم على الصمود أمام النكبات ويفقدون مناعتهم أمام إغراء الحياة السهلة. وذلك في قوله تعالى:‏

"قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين".‏

فثمة قانون تاريخي لا ينتقض يقضي بأن إيثار الحياة السهلة ينتهي بالإنسان الى الهزيمة والذلّ، وأن ثمن الترف هو الانحلال، ونهاية الانحلال الموت. أما جائزة الحرمان في مجتمع الحرب فهي القوّة والعزّة والانتصار.‏

فإما الحياة السهلة في مجتمع الترف أو الحياة الصعبة في مجتمع الحرب، وهذا هو الاختبار الذي نواجهه، وقد أرشدنا الله تعالى من خلال ايحاءات عبادة الحج وطبيعة اجوائه، الى الاختيار الصحيح وأنه الحياة الصعبة.‏

ولقد جعل الله سبحانه لنا في عبادة الحج هدايات شتى، من جملتها تدريبنا على تحمل المصاعب، وتعبئتنا لمواجهة التحديات الكبرى التي تُفرض علينا بحكم انتمائنا الى الاسلام الأصيل، وتأتي فريضة الحج كضمانة ضد حياة الترف، حيث انها تضع الانسان أمام شهواته وعاداته وغرائزه، وجميع ما يتصل أو يذكّر بحياة الترف والمترفين وزينة الحياة الدنيا، وتجعله يتعالى عليها ويترفع عنها بطواعية واختيار، وبذلك تكون الأمة التي تحج أمة محصّنة دائماً ضد تيار الترف ومفاسده وأخطاره، إذا مارست فعل الحج بوعي لأهدافه التربوية التي أرادها الله سبحانه.‏

فلنمارس عبادة الحج بهذه الروح، ولنحوّلها الى منهاج لحياتنا كلّها في هذا المنعطف الخطير من تاريخنا، فلا يجوز أن تكون العبادة طقساً ميتاً، وإنما يجب أن تنبض دائماً بالحياة، ولا يجوز أن تكون العبادة شيئاً من أشياء الماضي، وإنما يجب أن تكون عملاً من أعمال بناء الحاضر وبناء المستقبل.‏

ولنمارس فريضة الحج كمدرسة للتضحية والجهاد، خصوصاً ونحن نرجم يوم العيد ونذبح لله سبحانه، وهو اليوم الذي يذكرنا بمذبح الفداء الإبراهيمي، وفق حكاية نبي الله ابراهيم(ع) مع ولده إسماعيل(ع)، وهي حكاية تقدم درس الفداء والجهاد في سبيل الله لجميع أبناء آدم (ع)، فلقد علمنا أبو التوحيد ابراهيم (ع) أن التضحية في سبيل الله فضلاً عن بُعدها التوحيدي والعبادي، هي عمل يشير الى أبعاد سياسية، والى قيم اجتماعية.‏

وهكذا ندرك ونحن في رحاب الحج أن مكة ومنى رمزان ملكوتيان لمذبح العشاق، وأن هذين المكانين هما لنشر التوحيد ونفي الشرك "لأن التعلق بالنفس والأعزاء أيضاً من الشرك"، كما يلفت الامام الخميني (قده) في إحدى كلماته.‏

ولأن الحج جهاد وبراءه، ورجم للشياطين، فإن فعل الجهاد لا يبادر اليه الا المستضعفون الصالحون من غير أهل الترف، ولذا تلاحظ أن الامام موسى بن جعفر(ع) أشار الى المحدد العام لهوية الحجاج المجاهدين بقوله: "الحج جهاد الضعفاء وهم شيعتنا".‏

مدير مركز الهادي للثقافة والإرشاد‏

الانتقاد/ ثقافة ـ العدد 1143 ـ 6 كانون الثاني/ يناير 2006‏

2006-10-30