ارشيف من : 2005-2008
قصة قصيرة:نحو النصر المؤزر
ما ان أخذت بوادر انهيار القوات الاسرائيلية في جنوب لبنان تظهر للعيان.. حتى استبشر الجنوبيون خيراً.. في الخلاص من الاحتلال..
ولم يعد هناك مجال للشك في أن الانتصار الكبير.. أصبح في متناول السواعد المقاومة.. وأن المسألة.. مسألة وقت..
عندها سقطت الى الأبد مقولة، كانت شائعة في الوسط الانهزامي.
هي "ان العين لا تقاوم المخرز".
وخلال يومٍ، من تلك الأيام.. كانت أم جنوبية منهمكة في تنظيف بيتها... عندما عاد وحيدها "أشرف" من المدرسة فرحاً، هاتفاً، على بعد خطوات منها "أمي.. أمي.. طلعت الأول بالصف".
ثم استطرد تعلو شفتيه ابتسامة طفولية بريئة.. النجاح حلو يا أمي..
لقد صفقوا لي في الصف، عند إعلان النتيجة..
واحتضنت الأم وحيدها... ويدها تداعب شعره، وهو يتأمل وجهها المشرق... الهادئ.. وصوتها يتسرب الى سمعه ملؤه حنان الأمومة..
"مبروك يا ابني الله يخليك"
"على فكرة يا أمي، اسرائيل بدها تنسحب.. "الاشاعات متليي الضيعة.." وانتهت هذه المحادثة عند هذا الحد.. انطلق الصبي بعدها الى غرفة شبه مهجورة في زاوية الدار الواسعة.
قائلاً "بدي العب، بكره عطلة، عندما يعود أبي نتناول الطعام معاً..".
وعادت الأم الى متابعة عملها.. مستغربة الاهتمام الطارئ لوحيدها في البقاء كلما سنحت له الفرصة داخل هذه الغرفة.. على غير عادته..
سارت بدافع فضولي.. لمعرفة ما يفعله أشرف..
ابتسم الصبي، ملتفتاً نحوها.. "كما ترين.. قطعاً خشبية.. منشار.. مسامير.. ومطرقة صغيرة...".
وتغادر الأم المكان.. تاركة "أشرف" يحادث نفسه.. "في لحظة خاطفة.. سوف أزرع الرعب في قلوبهم"..
فجأة.. يقترب ضجيج عربات عسكرية اسرائيلية، من الحي الشرقي للقرية الجنوبية.. في دورية روتينية.
وينتفض الصبي غاضباً.. تاركاً كل شيء.. منطلقاً نحو شرفة المنزل المطلة على الطريق.. ليحاصر جنود الاحتلال بنظرات حادة، صارخاً بانفعالٍ ورافعاً علامة النصر في وجوههم.. وقد ضاع صوته وسط ضجيج الاليات الهائل.. أنا أكرهكم.. أمقتكم.. هل تسمعون.. سوف يأتي يوم وتندحرون عن أرضنا مهزومين..
ومع وجوم وجوه الجنود الكالحة المرعوبة.. تمضي الدورية المؤللة تاركة خلفها عاصفة من غبار أواخر الخريف..
مرت دقائق.. وأشرف ما زال واقفاً على الشرفة.. محدقاً.. ساهماً.. في داخله ثورة حقد عارمة.. ضد المحتل.. وتعود كلمات "معلم المدرسة" الى سمعه لتبعث الطمأنينة والثقة.. في نفسه البريئة..
اطمئنوا يا أحبائي.. الاحتلال لن يدوم.. قوى الشر والعدوان.. سوف تُهزم.. المقاومة مستمرة بقوة.. ونجاحها أذهل العالم.. وأنزل أفدح الخسائر بقوات العدو المذعورة..
من جديد.. ترقص الكلمات اياها فوق شفتي الصبي.. وقد تذكر خطته في الغرفة المهجورة.. في لحظة خاطفة "سوف أزرع الرعب في نفوسهم..".
وطال وقوف "أشرف" على شرفة المنزل.. وعادت الى ذاكرته مشاهد مؤلمة.. عندما تساقطت قذائف العدو المجرمة.. على ملعب المدرسة بحجة وجود مقاومين.. خلال يومٍ دراسي.. وكيف تفرق الطلاب صغاراً وكباراً.. في كل اتجاه.. يلفهم الذعر.. وسقوط قتلى وجرحى في صفوفهم..
كانت اصابة "خديجة" الطالبة.. اليتيمة.. الذكية .. بليغة.
.. عندما سقطت في أرض الملعب تتخبط بدمها الطاهر..
وكلماتها.. تتسرب الى سمع الصبي.. متقطعة، تضج بالألم.. "ساعدني.. يا أشرف" أسرع "أشرف" محاولاً مساعدتها على النهوض.. وهي تنزف دماً.. ولكن.. كانت لحظات.. قاسية.. صعبة.. عاشها ابن السنوات التسع.. عندما أفلتت الطفلة من بين يديه.. وهوت على الأرض.. وقد فارقت الحياة..
عندها أطلق الصبي، صرخة مدوية.. راكضاً في كل اتجاه.. لا يدري ماذا يفعل.. والدموع تغمر وجهه.. وقد صُبغت يداه الصغيرتان.. بدم خديجة ابنة الخمس سنوات..
من جديد.. استيقظ "أشرف" من ذهوله على الشرفة.. على صوت الام تدعوه لتناول الطعام.
حول الطاولة الأب يتأمل وحيده فرحاً.. "مبروك يا ابني على النجاح".
ودار حديث مطوّل .. مشوق.. حول قرب الانسحاب الاسرائيلي.. يبدو أن أشرف مقلّ في حديثه.. يا جماعة قولوا ان شاء الله.. قولوا ان شاء الله.. وتهمس الأم في أذن زوجها.. افرح يا عزيزي.. ابنك ـ الحمد لله ـ يتكلم كأنه اصبح شاباً..
مرت الأيام سريعة، متلاحقة .. وجاء عصر يوم ينتظره "أشرف" عندما غادر الغرفة شبه المهجورة.. يخفي خلف ظهره بندقية خشبية من صنعه.. تبدو للوهلة الاولى.. كأنها بندقية.. حقيقية.. ثم وقف خلف السياج.. مستغرباً مصادفة الأم تعمل على مقربة منه.. عندما أقبلت الدورية الاسرائيلية.. راجلة هذه المرة.. أفرادها متعبون.. يحملون سلاحهم بتثاقل.. يسيرون كأن أقدامهم مثقلة بالحديد.. يلتفتون يمنة ويسرة.. يخشون أي حركة تصادفهم.. وما ان اقتربوا بعض الشيء.. حتى وقف "أشرف" شاهراً بندقيته الخشبية صارخاً بأعلى صوته.. طاق.. طاق.. طاق..
وفي لحظة خاطفة.. أسرعت الأم تحمي وحيدها بجسدها.. عندما رأت أحد الجنود.. يصوّب سلاحه باتجاه "أشرف".. صارخة بكل ما أوتيت من قوة.. لا تطلق النار.. أيها الجبان.. انها بندقية خشبية.. مرت لحظات.. نهض الجنود المذعورون.. بعد انبطاحهم أرضاً.. رؤوسهم في الأرض.. تعلو وجوههم.. أمارات الخيبة والفشل...
وتابعت الدورية سيرها.. تشيعها ضحكات "أشرف" الرنانة، قائلاً.. تأملي يا أمي مجرد لعبة.. زرعت الرعب في قلوبهم.. وكانت كلمات الأم قليلة... ضاحكة بدورها يدها على صدرها.. سامحك الله يا ولدي لقد أرعبتني..
وجاء يوم.. دوّنت الأم الجنوبية في دفتر يومياتها. بفخرٍ واعتزاز كلمات من القلب.. مع اطلالة فجر الخامس والعشرين من أيار. عام التحرير كان يوم اندحار العدو الاسرائيلي عن أرض الجنوب.. وكان "أشرف" أول المنطلقين الى حقول القرية الجنوبية... لملاقاة شباب المقاومة.. الذين سطروا بتضحياتهم الجسام.. أروع الصفحات في تاريخ لبنان الحديث.. واكتمل تصدع جدار الوهم الكبير.. بأن جيش العدو الاسرائيلي لا يقهر.. وسقط هذا الجدار.. سقوطاً مزرياً.. ليصبح بعد انجاز التحرير... ركاماً داسته أقدام المقاومين الشرفاء.. الأقوياء.. وهم يعبرون نحو النصر.. المظفّر.. على أعداء الوطن والانسانية.. وإرغامهم المذل.. على الهروب الى جحيم الهزيمة..
صبحي مصطفى ايوب
الانتقاد/ قصة قصيرة ـ العدد 1144 ـ 13 كانون الثاني/ يناير 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018