ارشيف من : 2005-2008

الحج أبعاد ودلالات

الحج أبعاد ودلالات

لعل أهم ما يميز مجموعة العبادات التي يقوم بها الإنسان المسلم أنها تحمل قيمة ذاتية في نفسها وقيمة أخرى باعتبار الشخص والمحيط وما تخلص اليه من نتائج وآثار في الواقع.‏

وهنا في هذا المقام سنحاول التركيز على واحدة من العبادات التي أوجبها الله تعالى على المسلمين، ألا وهي فريضة الحج التي دعا الله تعالى فيها المستطيعين الى أدائها، وحدد لهم الكيفية والأسباب التي تدعو الى الاتيان بها، وما تحمله من نتائج وآثار.‏

بداية فريضة الحج تحمل قيمة ذاتية داخلية، إذ ان الفرائض والعبادات تعبر عن الدستور والنظام الكوني الالهي الذي يتجلى في مظاهر متعددة، وبعبارة أخرى العبادات وسيلة الاتصال بالعالم الالهي، وبما أنها تحمل هذا الوصف فلا بد أنها تدل على قيمة واقعية وحقيقية في نفسها، ولذلك كانت الرؤية الى هذه الفرائض هي أنها تقوم على أساس المصالح والمفاسد واختيار ما يحمل في داخله تكامل الفرد. ان العبادة التي تحمل في داخلها ما يؤهلها لأن تنقل الفرد الى عالم الكمال والرقي لا بد أن تكون في مستوى عالٍ من امتلاك المفاهيم والصفات الكمالية.‏

هذا من جهة ومن جهة أخرى غير بعيدة عن النقطة الأولى، فالعبادة بما أنها وسيلة اتصال ووصول الى الكمال الانساني فإنها تصبح ذات معنى حقيقي عندما ينتقل الانسان بها الى الهدف الذي وجدت العبادة لأجله. وعلى هذا يمكن القول ان العبادة تحمل مجموعة من القيم والأبعاد على مستوى الفرد والمجتمع فتتجلى على صورة قيم تربوية واجتماعية وغير ذلك...‏

والحج أيضاً واحدة من العبادات التي تظهر فيها هذه الآثار والأبعاد، والتي يكون الهدف منها نقل الانسان الى مستوى الكمال المنشود في العبادة:‏

1 - على مستوى الشخص فإن الحج يساهم في زيادة الارتباط بين الفرد والله تعالى على أساس أن من يختار القيام بهذه الفريضة فهو أقبل عليها بإرادة واختيار كامل كونه من الذين وصلوا الى مرتبة القناعة واليقين بأحقية المنظومة الدينية بأكملها، ولا بد أنه عندما يقوم بالعبادة هذه أن يأخذ بعين الاعتبار الهدف، لا بل الأهداف التي وجدت العبادة والفريضة هذه لأجلها. فإذا كان أحد أهداف هذه الفريضة الإلهية هو ربط الإنسان بخالقه، فلا بد أن يلتفت الفرد الى هذه القضية، وعلى هذا كانت الانطلاقة الأساسية لكل الفرائض تقوم على أساس نية التقرب الى الله تعالى، على اعتبار ان هذا العمل العبادي الذي أقوم به انما ألتزم به كوني من الذين ارتضوا الدين الالهي والهدف الذي وجد لأجله، ومن أهم وأساسيات هذه الأهداف هو التقرب الى الله تعالى.‏

2 - إن أهم شعور وإحساس يعتري الحاج هو أنه يعمل في سبيل الله، لأن الايمان بالمنظومة الدينية والالتزام بإتيان فرائضها يحتمان على الإنسان أن يتفرغ بشكل كامل في وقتٍ وزمنٍ خاص لهذا العمل، وبالتالي عليه أن يعد نفسه لأعمال العبادة بشكل كامل، أي أن يبذل جهده في الإتيان بأجزائها كاملة صحيحة، وهذا يتطلب الوقت الخاص والمحدد والضروري لها. هذا الأمر يتوقف على أن يجرد الإنسان قلبه لله عز وجل من كل الشواغل والحجب، وينتقل بفكره وإحساسه وعمله الى الخالق تعالى لتكون عبادته خالصة مقبولة عند الله تعالى.‏

3 - هناك العديد من العبادات التي نقوم بها والتي لا تحمل على المستوى الجسدي أي إرهاق أو تعب، لا بل يكفي في الكثير منها أن يتوجه الإنسان ويحرك جانب الاهتمام لديه فيؤدي العبادة، إلا أن بعض العبادات كالحج مثلاً من الأمور التي قد تترافق في الكثير من الأحيان مع نوع من التعب والجهد، لذلك كانت التضحية في سبيل الله أهم ما يميز هذه العبادة الإلهية، البعض يتحمل عناء السفر ومشاق الطريق ومشكلات الحضور والقيام بالعبادات المطلوبة، فإذا قام الإنسان بهذه العبادة فقد ارتضى أن يكون عمله هذا نوعاً من التضحية والجهاد في سبيل الله تعالى. طبعاً هذه التضحية تتطلب بالإضافة الى الاستعداد والتحمل الجسدي، الاستعداد النفسي حيث على الانسان أن يبذل قوته الجسدية والروحية للقيام بهذه العبادة.‏

4 ـ الحج وزيارة بيت الله تعالى فرصة ميسرة للانسان ليعيد النظر الى نفسه وعبادته ويقوّم جميع مراحل حياته، ويميز ما كان منها يوصل الى القرب الإلهي وما يبعد عنه. فيخلو الإنسان الى نفسه ويعمد الى ذنوبه وآثامه للاستغفار وطلب الرحمة الالهية، حتى أنه لو لم يكن للحج سوى هذه الخاصية لكانت كافية في أن يعود الانسان لمراجعة حصيلة حياته، وبالتالي الحج مناسبة حقيقية لصناعة الانسان المثالي.‏

5 - ان الاطلاع على الدور الحقيقي للإسلام وعظمة الرسالة الاسلامية يتجلى بشكل واضح وجلي في منسك الحج، حيث يجتمع المسلمون من كل حدب وصوب ومن كل ناحية وبلد، والكل يتجه بروحه وعقله وجسده للقيام بالفريضة الالهية. اذاً أن يتمكن الإسلام من لعب دور جمع تعداد كبير من البشر لأجل غاية وهدف واحد، هو عمل عظيم يبين مدى أهمية الرسالة الاسلامية. وهنا يحمل هذا الاجتماع العظيم معاني ودلالات كبيرة، فبالاضافة الى الإحساس والشعور الذي يعتري الشخص وما يشعر به من عظمة للدين، فإن هذا الاجتماع يؤدي أدواراً قد لا يمكن القيام بها في مراحل وأماكن أخرى.‏

بداية يلعب هذا الاجتماع العظيم دوراً أساسياً في توعية المسلمين وإرشادهم الى اسلامهم وقضاياهم الأساسية، وخير دليل على ذلك ما قام به الرسول (ص) من اعلان لولاية وإمامة الإمام أمير المؤمنين(ع) في غدير خم، حيث جمع الرسول (ص) الناس وهم الذين وفدوا من كل مكان لأداء فريضة الحج، وبعد الانتهاء أعلن الرسول(ص) عن تفاصيل أهم قضية اسلامية. لو لم يكن الاجتماع لكان يجب القيام بهذا العمل على مراحل وفي أماكن مختلفة ومتفرقة. وهكذا في كل قضية ومسألة اسلامية هامة فإنها تجد من فريضة الحج فرصة لنشرها وتوجيه الوعي البشري اليها.‏

ثانياً فإن الحج هو مؤتمر سياسي عالمي وملتقى عام لجمع المسلمين وفرصة للتعارف والتآلف واللقاء مع بعضهم الآخر وتداول أوضاعهم وعرض مشكلاتهم والحلول الموجودة لها، وهذا يتيسر بشكل كبير في مناسبة الحج.‏

ثالثاً الحج يساهم في زيادة التقرب والاخوة من الآخرين، فالمسلمون على اختلاف أعراقهم وألوانهم... يشعرون في الحج بضرورة الاقتراب من بعضهم الآخر، اذ الكل قد وفدوا الى غاية وهدف واحد، فتكون المناسبة لجمعهم بعدما فرقتهم المسافات. وطبعاً فإن السبب الأساس لهذا الأمر هو ما تقدمه فريضة الحج لا بل الفرائض العبادية من شعور بالتواضع والمساواة واللطف واللين والكرم والتعاطف والامتناع عن الكذب والغيبة.. وما تحمله هذه العبادة من تربية للفرد وسلوك به الى طريق الهداية والصلاح.‏

وأخيراً فإن الحج عبادة تحمل قيماً ومعاني سامية تؤدي حال الالتزام والقيام بها الى صناعة الأفراد والمجتمعات، وتوجيههم نحو القيم الانسانية العالية التي توصل في النهاية الى أعظم نظام الهي. والعبادة هذه يشترك فيها الجسم والمال، وتساهم فيها النفس والمشاعر، لذلك كان الحج عبادة مالية وبدنية وإظهار للعبودية وتأكيد على التحرر من كل قوة عدا الله سبحانه وتعالى.‏

علي الحاج حسن‏

الانتقاد/ ثقافة ـ العدد 1143 ـ 6 كانون الثاني/ يناير 2006‏

2006-10-30