ارشيف من : 2005-2008
كتابات معاندة بالفصيح
د. عبد الله أبو هيف
نكاد نفتقد فن المقالة في السنوات الأخيرة على الرغم من انتشار وسائل الاتصال الحديثة من الصحافة الى النشر الالكتروني، ولعل متابعي هذه الوسائل هم الأكثر لهفة للحصول على مقالات جذابة ومشوقة وممتعة ومفيدة في الوقت نفسه في تناولها لقضايا ذات حساسية بالغة من الشأن السياسي العام الى الشجون الذاتية المؤرقة. وقد استطاع عبد الله محمد الناصر (السعودية) أن ينتمي الى أصحاب هذه المقالات المؤثرة في كتابه "بالفصيح: كتابات معاندة" (دار رياض الريس للكتب والنشر ـ بيروت 2002) من خلال أمرين، الأول مقدرته الفنية العالية على صوغ مقالة بشروطها المتعددة من بهجة اللغة الى صدق الإقناع المنغمر بنفح الوجدان، والثاني هو جرأته الصريحة في مواجهة الشواغل العامة والخاصة في آن واحد، وقد كان الناصر مدركاً لمجازفة كتابة المقالة التي تحمل رسالة، وتتصدى لأوجاع الأمة وهمومها، فلا مانع "من أن يمارس الكاتب نشاطه الرياضي الذهني، ولكن ليس بعيداً عن وجه الأمة وألمها.. وإلا فإنه بذلك انما يمارس أنانية وانعزالية، ونفعانية فردية، تجسد السلبية، وتكرس الخطيئة في حق أمة تغرق في أوحال المحن والشدائد... إن المحايدة والميل الى الدعة من قبل الكاتب هو موقف من مواقف الإزراء والخذلان الذي يتنافى مع أخلاق الكتابة كمهنة شريفة تنادي بالعدالة والمحبة ورفع الظلم" (ص16).
لقد آثر الناصر أن يسمي مقالاته هواجس في مقاربتها لموضوعاتها، وفي ملامستها الشفافة لوطأة هذه الموضوعات على الروع الانساني المكلوم، فكانت هذه الهواجس الوفيرة في السياسة والفكر والثقافة والاجتماع والهم الوجداني، "ليست غايتها المعاندة في حدّ ذاتها، وإنما لتضيف صوتاً الى تلك الأصوات التي تقول: لا... أمام ذلك الخطر الجارف الذي سيعقبه خراب لا يشبه أي خراب، وسيحدث تدميراً لم يسبقه أي تدمير.. والذي لو وقع لا قدّر الله فإنه لن ينفع معه وقتها لوم اللائمين، ولن ينفعنا معه أيضاً لعن المرجفين والمطبّعين (ص19).
ترتكز غالبية مقالات الهواجس السياسية على حال الأمة المستلب، "والسؤل المؤرق والمرهق هو: أين موقف المثقف العربي النزيه والغيور من ذلك كله؟ فـ"اسرائيل" ومن ورائها اميركا لديها مخطط واضح ومدروس، وينفذ بدقة وفق برنامج زمني محدد لا يقبل التسويف او التأخير، ولا يقف عند حد الاستيلاء على الأرض والثروة... وإنما يذهب الى ما هو أبعد فيهدف الى تحطيم وهدم الثقافة والهوية والعقيدة، فلقد بلغ الصلف بـ"اسرائيل" واميركا الى درجة التدخل في مناهجنا، وتغيير تاريخنا ومواقفنا العقائدية والأخلاقية... وبدلاً من الرفض والمواجهة يستقبل البعض ذلك بالامتثال فيسارع الى الإذعان والتنفيد!". (ص17).
ولو أردنا أن نعرف مدى المواجهة في هذه الهواجس السياسية على سبيل المثال، فإن نظرة فهرس الاعلام تشي بذلك، فلم يذكر أي اسم أكثر من أربع مرات، بينما ورد اسم الارهابي شارون لأكثر من عشرين مرة، ولا يباشر الناصر هذه المواجهة، بل يجعلها أكثر بلاغة وإبلاغية كما في مقالته التي حملت رسم "الفقاهة العربية"، فالعرب، برأيه على سبيل الدعابية الساخرة المريرة، "فقهاء في أمور كثيرة.. فقهاء في الدين أحياناً، فقهاء في الشعر كثيراً، في الغناء طبعاً، فقهاء في علم القسمة والضرب... ولكنهم غير فقهاء في السياسة، ولا يريدون أن يكونوا كذلك، وربما أن تلك سمة عربية قديمة متوارثة. فالعرب يجيدون فن الحرب، ولكنهم لا يجيدون الا قليلاً فن لعبة الحرب، ومكر الحرب وكيدها... عين العربي دائماً مفتوحة على الوضوح فلا يحدها الا السراب أو شماريخ الجبال أو كثبان الرمال" (ص49).
ثم أمعن الناصر في مواجهة حال العرب، واستنجد بشعر المثقب العبدي الجاهلي الواضح والمعبر عن مجانة لغة الضباب أو سياسة الضباب أو حروب الضباب، وكان الموقف صارماً وصلباً لا يقبل الوسطية أو المحايدة، ولا يقبل التأويل أو امكانية الاحتمال بقوله:
فإما أن تكون أخي بحق
فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني
عدواً أتقيك وتتقيني
ورأى الناصر ما يشبه الغيبوبة السياسية في مآل الأوضاع الجائرة والظالمة بحق العرب بعامة، والفلسطينيين بخاصة، إذ "كانوا يقاتلون جنباً الى جنب فأصبح كل جنب يقاتل وحده. وكانوا يدافعون عن بعضهم فصار بعضهم مع عدوهم، وكانت تأتيهم الوسطاء لحل النوازع بينهم وبين عدوهم، صاروا هم الوسطاء مع عدوهم! وهكذا تتلاشى قضاياهم كما تتلاشى أراضيهم ولغتهم واقتصادهم بسبب طيبتهم وسذاجتهم وأخلاق فرسانهم الموروثة" (ص 51).
ودعا الناصر الى "التفقه" في اللعبة السياسية الدائرة والطاحنة، وبلغت الدعابية مبلغها الأقصى في قوله: "غير أن هذا التفقه أو هذه الفقاهة، إن جاز التعبير، لن يتعلمها العرب من دروس جامعة الدول العربية بكل تأكيد، ولكن دروس شارون التي يلقيها في المنطقة منذ أكثر من خمسين عاماً، ودروس الضحك على ذقون العرب من قبل الغرب ـ الصديق ـ منذ أكثر من خمسين عاماً قد تكون مفيدة" (ص52).
استخدم الناصر ثقافات بلاغية وإبلاغية كثيرة بالإضافة الى الدعابية المريرة بما هي سخرية باعثة على الشجن الانساني والقومي، وكان اللجوء الى التخيل السردي من أبرزها، مثل الحكايات والأمثال وإدغامهما بالمدى السيري الحميمي إثارة لوطأة القضايا العامة على النفس، كما في مقالته "أين نروح..؟"، وهي جملة أطلقتها امرأة فلسطينية جلست فوق أنقاض بيتها وأطفالها بعد أن دمره شارون بالصواريخ وحوّله الى كوم من الأحجار والخشب، فجلست المرأة تنوح، وتذرف دموعها، وتردد هذا الكلام في وجوه الصحافيين ووسائل الاعلام: "أين نروح؟ إنهم يقتلوننا قتل الكلاب: ثم صارت المقالة الى تنويعات سردية حول يأس المسكينة من عون العرب ومساندتهم ومساعدتهم، وارتفع صوتها من قلب مدمر مجروح، مثلما يرتفع صوته الجريء والصريح: "شارون يؤسس لدولة الأغوال التي سوف تغتال الأمن والفرح في قلوبكم وفي عيون أطفالكم، فلماذا تصمتون؟ ماذا تنتظرون، وما هي حجتكم؟ وماذا سيقول عنكم التاريخ أمام أجيالكم؟ طبعاً نحن لا ننتظر معتصماً آخر، ولكن ننتظر وقفة حازمة أمام الغطرسة والعربدة الاسرائيلية العربية" (ص58 ـ 59).
ومزج الناصر في خاتمة مقالته بين السرد والنجوى المتوجعة الساخرة مخاطباً متلقيه عن حال العرب المؤسي: "وها هو نداء المرأة الفلسطينية المستغيثة يدوي في السماء والأرض العربية فيتلاشى في الصمت الذليل. فالعرب صامتون مذعنون خائفون آكلون.. شاربون، حالمون، نائمون... الى كل ما آخره بواو ونون" (ص59).
وقد زخرت مقالات الناصر بثقافته على سبيل الإحالات المعرفية داخل نسق حكائي شديد التأثير كما في مقالته "أقلي اللوم"، ويشي عنوانها بالتناقص او الإحالة الى القصيدة الجاهلية المشهورة، ثم يبني مقالته على حوار بين المؤلف والطفلة الفلسطينية وقد شقت قذيفة شارون بطنها، وأحدثت به فجوة أوسع من بوابة جامعة الدول العربية. وتكاد المقالة كلها تكون مبنية التناصّ مع نسق ثقافي عربي باعث على القيم المهدورة مثل قوله:
"واذا أطقوا قذيفة أطلقت كلمة. واذا قتلوا طفلة مسحنا دمعة. وذلك أقصى غاية الجود، فالجود بالدمع أقصى غاية الجود" (ص87).
وتسعى المقالة بعد ذلك الى تداعي المشاعر من خلال تداعي الأفكار طلباً لتعاطف وتأثير إزاء قسوة الحال المضنية التي يعاني منها العرب بسبب ضعفهم الناجم عن هدر الامكانية العربية برمتها، وتغدو الكلمة الأخيرة أدخل في ذلك الشجن المردع:
"قلت: يا بنيتي.. ما رأيك أن تذهبي وتنامي؟
قالت: وكيف أنام؟
قلت: نامي مثلما ينام العرب جميعاً" (ص79).
وتتعدد أشكال المجازات والاستعارات في صوغ المقالة لدى الناصر تشخيصاً لبعض الأفكار والرؤى، كما في مقالته "صديقنا العار" التي تؤنسن وطأة فكرة العار على الوجدان على سبيل السخرية، فخاطب العار بصديقنا، فقد تعود أن يزورهم بين فترة وأخرى، وما يلبث أن يندغم النص بالمجازات السياسية والتاريخية: "وكنا نكرم وفادتك، ونحسن استقبالك فنقدم لك أشهى وجبات الشجب في مؤتمرات قممنا الشاهقة.. أما اليوم يا صديقنا فإنا نحييك، ونقدم لك أكباد أطفالنا ونواح نسائنا ودموع شيوخنا".. الخ (ص113).
وتميل المجازات بفعل النقمة على هذه الأوضاع المرفوضة الى ما يشبه جلد الذات ليظهر النقيض من نقيضه بقوله: "فلا تخب يا صديقنا أن تزورنا كل عام مرة أو مرتين أو عشراً فلا تغرنك هذه الأعداد الهائلة، وربما الهائجة من الملايين من بني يعرب فهؤلاء ليسوا من الأمر في شيء، وليسوا من المقدرة في شيء، فهم مستلبون عاجزون، وقد قال شاعرهم القديم:
وإن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الأمر في شيء وإن هانا"
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1144 ـ 13 كانون الثاني/ يناير 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018