ارشيف من : 2005-2008

الاعلام بين الحياد والانحياز:إدانة حتى تثبت البراءة

الاعلام بين الحياد والانحياز:إدانة حتى تثبت البراءة

الأرجح أن كلمة حياد منتقاة من قاموس الاعلام بشتى فروعه، وإذا تحققت شروط الحياد في تحقيق أو مقال أو خبر فلا بد أن نلاحظ نبرة عالية في افتتاحية أو "كولوسة" صغيرة أو حتى في تعليق على صورة، هذا اذا ما استثنينا الكاريكاتور لطبيعة ماهيته. هناك من ينزه نفسه عن أي انحياز أو تجنّ، ويدّعي الموضوعية والتنوع وتعدد الآراء، وغالباً ما تصدر هكذا ادعاءات عن المؤسسات الاعلامية الغربية، إنما طبعاً ليس من محطة "فوكس" ولا مجلة "نيويوركر".‏

ناس بسمن..‏

عملت مرة في مجلة اسبوعية اشتغلت على فكرة الرأي والرأي الآخر، بل كانت تبالغ في أحيان كثيرة حيث تبرز الردود المهاجمة للمجلة ولرئيس تحريرها وفريق عملها، لكن هذا الصدر المتسع كان يضيق عندما تُسمع أسماء معينة لرئيس التحرير معها سجالات أو حتى هي أسماء لأصدقاء سابقين أخطأوا مرة في كلمة أو تعبير أو تصرف وكانت النتيجة ان وضعوا على لائحة "الارهاب"، لذلك كان هناك في المجلة من يترصد تحركات هؤلاء "الضالين" ويصوغ آراءهم وأداءهم، بعين واحدة وربما تكون نصف مغمضة.‏

لكن الشائع يتجاوز صراعات الأفراد، نحو الجهة الممولة للمؤسسة الاعلامية، فتخوض هذه الأخيرة صولاتها وجولاتها ضمن قواعد الممول وتوجيهاته، وفي أحيان كثيرة تصفي بعض الدول المتناحرة حساباتها عبر مؤسسات اعلامية تقوم بتمويلها، والمشكلة أنه وفي بعض الأحيان ينتفي دور الوسيلة مع انتفاء الصراع، "فينفخت الدف ويتفرق العشاق".‏

أشكال هكذا تراشق منتشرة أكثر في العالم العربي، لكن المفارقة ان ساحة الصراع كانت لندن حيث تكثر المطبوعات والمحطات العربية الباحثة عن مكان للتنفس حتى لو كان هذا التنفس اصطناعياً.‏

فوق الطاولة‏

في بعض الأحيان تتجاوز وسائل الإعلام حدود اللياقة الظاهرية فتراها تشن حملات علنية ومن دون سبب يذكر على جهة أو شخصية متمولة بهدف انتهاء المشهد في صالون جانبي يدفع فيه المبلغ المرقوم. وهنا أذكر أنني عملت في وسيلة عُرفت بولائها المطلق لشخصية سياسية متمولة، لكن يبدو أنه قصّر في حقبة ما في دفعته أو حجمها فانهالت عليه تلك المؤسسة بأقذع النعوت وأقسى التعابير وعلى مختلف الجبهات، حتى لمحت أثناء مروري في رواق تلك المؤسسة، رجلاً يحمل حقيبة وعليه سمات الجدية والأناقة، وحين سألت عن اسمه أخبرت أنه فلان وهو مستشار فلان، وأن هذا اللقاء هو بهدف "تصفية القلوب".‏

نقل البندقية‏

ثمة وسائل اعلامية متقلبة بحسب طباع أصحابها، وربما للأمر سرّ في مواصفات برجه إن كان نارياً أو مائياً أو ترابياً، فبعد أن تستشرس هذه الوسيلة في الدفاع عن جهة وأفكارها تعود بعد مدة لتنقل البندقية من كتف الى كتف، وتستشرس في نقد وتشريح ذات الجهة وأفكارها، وطبعاً ليس للأمر أي أبعاد أيديولوجية أو مبدئية، بل الأمر يصب في خانة المادة أولاً، وقد يكون لحجم النفوذ واختلاف حجمه مكانة في تحديد الموقف فالتمويل دون إسناد معنوي له محاذيره أيضاً!‏

.. وعندهم‏

تقف كلمة حياد في وسائل الإعلام الغربية فوق قشرة رقيقة لن تحتاج الى حك كثير لكشف لبّها، لكن الذكاء في الأداء يسهل تمرير أصعب الرسائل دون الوقوع في مطبات تترك خلفها آثاراً جانبية أو بصمات يمكن ملاحقتها، وهنا لا ضير من التأكيد على نظرية المؤامرة وليس نفيها كما يفعل الجميع، ذلك أن جهة ما أو عقلاً ما في الغرب لا بد أن يحفر لنفسه نفقاً يبقيه على تواصل بمؤسسة أو منظومة إعلامية كبرى، وفي العادة يكون التدخل في تحوير كلمة أو تصنيف جهة أو تأكيد فكرة، والراغب في التوسع عليه الإطلاع على دراسات غربية وكتب تشير للدور اليهودي في التمويل أو النفوذ، حتى أن هذا الدور في أروقة هوليوود مثلاً (وهي وسيلة اعلامية من نوع آخر) أصبح أكثر من واضح، وطبعاً لرأي المخرج الراحل مصطفى العقاد مصداقية تدعمها التجارب والاحتكاكات.‏

أما الـ"سي.آي.أيه" فلها أدواتها وكتائبها المنتشرة في كل المجالات، وفي أولى أولوياتها الإعلام، حتى أن أسماء معروفة في الفن والأدب والغناء تبين وبوسائل شتى أنها تعاونت وتحركت تحت جناح هذا الجهاز الاستخباراتي.‏

"لوموند"‏

عملت الصحيفة الباريسية المعروفة "لوموند" خلال ما يزيد عن ستين سنة من عمرها على تزويد قرائها ـ السياسيين ورجال الأعمال والشخصيات العامة ـ بتحقيقات دقيقة حول حالات تضارب المصالح واستغلال السلطة وصرف النفوذ والاحتيال المالي.‏

لكنها تعرضت للتدقيق في حالات مشابهة يقال انها تشوب نشاطاتها المهنية. ففي كتاب "الوجه الخفي للوموند" الصادر سنة 2003 في باريس، يتهم الصحافيان فيليب كوهين وبيار بيان، اليومية الفرنسية بممارسة خروقات واسعة النطاق للأخلاقيات الصحافية. ويصل الكتاب، الذي تصدّر لائحة أفضل الكتب مبيعاً في فرنسا فور صدوره، الى حد اتهام مديري الصحيفة بالخيانة من خلال استغلال النفوذ الواسع الذي تتمتع به الصحيفة لدعم سياسيين معينين، ومهاجمة آخرين، وللحصول على صفقات تجارية مشبوهة، ولخنق أي محاولة للتشويش عليهم من قبل العاملين فيها أو في الصحف المنافسة. وتتركز الاتهامات على جان ـ ماري كولومباني وإدوي بلينيل وألان مينك الذين تولوا المسؤوليات الصحفية في العام 1994 في محاولة لإنقاذها من التعثر المالي الذي كانت تعانيه آنئذ. وقد عمد الثلاثة الى تصحيح أوضاع الصحيفة من خلال مشاريع جديدة، لكن الكتاب يؤكد أنهم أخضعوا السياسة التحريرية لمصلحة السياسة المالية. ويضرب مثلاً امتداح "لوموند" لصحيفة "20 دقيقة" الشعبية المجانية في النروج على أمل التوصل الى عقد شراكة معها، لكن حين لم يكتمل العقد، شنت "لوموند" حملة انتقادية عنيفة على الصحيفة، كما يشير الكتاب الى تقويم الصحيفة لسياسيين ورجال أعمال كان يرتبط بتوفيرهم الدعم المادي لها.‏

"سي.بي. إس"‏

أثار برنارد غولدبرغ، مراسل شبكة التلفزيون الاميركي "سي.بي.أس" زوبعة في عالم الاعلام المرئي في الولايات المتحدة حين انتقد، في مقالة نشرتها صحيفة "وول ستريت جورنال" في العام 1996، الشبكة لاستخفافها بطروحات المرشح الرئاسي "ستيف فوربس" حول الإصلاح الضريبي في الولايات المتحدة، مؤكداً أن ما قاله الرجل كان يستأهل بعض النقاش الجدي.‏

وفي العام 2001 وبعد سنة على تقاعده، أصدر غولدبرغ كتاباً بعنوان "تحيّز" يستعرض فيه السياسات الإعلامية المتميزة لكبار مالكي وسائل الاعلام المرئية في الولايات المتحدة وأصحاب القرار في هذه الوسائل، على خلفية تجربته هو في المحطة. من ناحية، يكاد الكتاب أن يكون تنويعاً على المقالة الآنفة الذكر، وحملة شعواء على أصحاب القرار في كبريات الوسائل الإعلامية المرئية، لكنه من ناحية أخرى يحيي الجدال حول صواب استخدام بعض التعابير التي باتت جزءاً لا يتجزأ من كتابة التقارير الصحافية الاميركية بشكل عام، فعلى سبيل المثال، من هو "اليميني" ومن هو "اليساري" ومن هو "المعتدل"؟ ويفند بعد ذلك أوجه التبسيط التي تعاني منها وسائل الاعلام المرئية الاميركية في تعاطيها مع مواضيع جادة.‏

بين الحياد والانحياز شعرة.. مدفوعة الثمن!‏

عبد الحليم حمود‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد1144 ـ 13 كانون الثاني / يناير 2006‏

2006-10-30