ارشيف من : 2005-2008

الحج وركن البراءة من المشركين

الحج وركن البراءة من المشركين

الحج محطة عبادية مركزية، يفد فيها المسلم على بارئه ويحلّ في ضيافته في اشرف البقاع واعظم الازمنة واجلّ المناسك والمراسم، وهي دعوة الهية اتيح من خلالها للعباد بالتوبة والاوبة والاستغفار لجميع ما فات من الذنوب والآثام والخطايا والزلات، وعلى اثرها تكون المغفرة والرحمة والنظرة العطوفة والرأفة بالعباد التي تصل الى حد ما ورد في الروايات بأن الحاج يعود كما ولدته امه ويستأنف العمل.‏

وبما ان للحج خصوصية الاستجابة للدعوة الالهية فإن الرفض لهذه الدعوة مع القدرة على التلبية يعتبر بمثابة الجحود بكرم الله، واستغناءً عن رحمة الله واستكباراً عن التلبية لله، وعليه كانت المعصية في مقام التخلف عن الحج مع الاستطاعة هي من كبائر المعاصي التي توعد الله عليها النار، لان العاصي هنا جاحد لحمد الله ولكرم الله ولآلاء الله ونعمائه، وهنا تكمن الخطورة والجرم وعظم الفاحشة لمن يترك الحج مع استطاعته لذلك.‏

وللحج كما لجميع العبادات والفرائض آداب معنوية وظاهرية، ففي الظاهر هناك الاحرام والتلبية والطواف والسعي والرمي والوقوف والمبيت والتقصير وغير ذلك، وفي الباطن هناك خلوص وتوجه وتقرب وتزلّف الى الله، وايضاً في مقابل ذلك نفي للجبت وتجنب للطاغوت وتبرؤ من المشركين، فمن مزايا الحج كعبادة شموله لمقامي التوحيد ونفي الشرك، ويتجلى التوحيد في اخلاص النية في التوجه الى تلك المناسك وادائها، ويتمثل نفي الشرك في اعلان البراءة الصريحة الواضحة من المشركين، ففي الظاهر يرمي المسلم تلك الاحجار المنتصبة في منتصف عالم الشهادة بأحجار الطهارة من تلك البقاع، لكن هذا العمل الجسدي ينطوي على ابعاد تربوية عظيمة هي حقيقة البراءة من الطواغيت والاصنام الحقيقيين الذين ينتصبون واقعاً وفعلاً في وسط عالم الانسان والشهادة يعملون على قطع طريق الانسان نحو العبودية لله تعالى، وينصّبون انفسهم آلهة من دون الله سواءً اعلنوا ذلك صراحة ام اضمروه، فإن سلوكهم يدل على احلال سلطانهم في موقع الربوبية والالوهية، وان التوحيد الحقيقي مبني اساساً على الايجاب ونفي السلب، الايجاب بالاخلاص لله تعالى في العبودية، ونفي السلب في الكفر والتبرؤ من الطواغيت.‏

وبما ان للطاغوت رموزاً عينية خارجية وليس اسماً لرمز او لوهم او لحالة نفسانية فقط، وبما ان الزمان لا يخلو من وجود الطواغيت، ففي كل مرحلة من التاريخ نقرأ عن حالة طاغوتية، فعلية تمظهرت في امة في قيادة او سلطة، وكانت الخاصية التي تميزها عن حالة الظالم او الظلم هي الاستكبار والطغيان والحلول في مقام الربوية، وبما ان عصرنا هو استمرار للزمان الجاري قدماً فلا بد بحسب القاعدة من توافر عنصر الطاغوتية فيه، ومن عظيم ما قام به الامام الخميني(قده) هو اجتهاده في اظهار الحالة الطاغوتية والاعلان عنها وتعريف الناس اليها، لان من واجبهم ان يحاربوا الطاغوت وان يواجهوه، وبالحد الادنى ان يتجنبوه ولا يطيعوه او يعبدوه، وهكذا كان الاعلان المدوي للامام الخميني(قده) بالموت لاميركا، لا كشعب ولا كأمة ولا كوسائل ولا كتاريخ ولا كمستقبل، وانما الموت للادارة الطاغوتية المستكبرة التي تعمل للسيطرة على العالم بالظلم والتسلط والاستبداد والهيمنة والغطرسة وسلب الثروات وابادة الشعوب وسحق الارادات وتحطيم النفوس واذابة الهويات وتخريب الثقافات وتشويه الحقائق مستفيدة من امكانيات عسكرية ومادية واعلامية وتقنية عالية، ما جعلها تتعاطى كإدارة وكسلطة مع العالم بالاستضعاف والهيمنة والاستغباء والتحقير والاذلال غير آبهة بالعالم وبالمجتمع الدولي وبالانظمة وبالقوانين وبالاعراف وبالضوابط وبالحقوق المدنية والانسانية معتمدة في محاولة السيطرة على العالم على امكانيات اتاحها الله لها بفعل التقدم والعلوم، وكان من الواجب عليها ان تستغل هذه النعم لمصلحة البشرية ولتقدم الانسان، وكان حالها كحال عاد وثمود اللتين جحدتا انعم الله واستبكرتا وكان عاقبة امرهما خسراً.‏

اذاً الامام الخميني(قده) اعلن للملأ بأن اميركا كإدارة هي الطاغوت في هذا الزمان، وان هناك شياطين من الانس مرتبطون بهذا الطاغوت، وان الشيطانية متفرعة عن الالتحاق بهذا الطاغوت، وبالتالي فإن التوحيد والخلوص لله والربانية والعبودية لله كلها من لوازم الابتعاد عن هذه الادارة ونفيها وتجنبها ومواجهتها وتحطيمها والعمل على خلاف ارادتها.‏

وبما ان الحج موسم توحيدي بامتياز يعلن فيه المسلم خلوص النية في التوجه الى قبلة الآمال في تلك المحال الطاهرة المقدسة فإنه في المقام عينه مخاطب باللسان الالهي بضرورة البراءة من المشركين "وأذانٌ من اللهِ ورسولهِ الى الناسِ يومَ الحجّ الاكبر أنّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولُه"، وهذه البراءة من حيث المصداق والتمظهر هي براءة من ارادة المستكبرين وادارة الطواغيت وعلى رأسهم اميركا في العالم وربيبتها اسرائيل في منطقتنا، فتكون البراءة ومراسم البراءة ركناً اساسياً في تمامية الحج وكمال مناسكه لأنها مصداق نفي الشرك اللازم في حسن الاداء والاتمام للحج. د. بلال نعيم‏

الانتقاد/ ثقافة ـ العدد 1143 ـ 6 كانون الثاني/ يناير 2006‏

2006-10-30