ارشيف من : 2005-2008

يوم الغدير في أبعاده الغيبية

يوم الغدير في أبعاده الغيبية

يفيض الحديث عن يوم الغدير في أبعاده ودلالاته الكثيرة، التي أشارت إليها الروايات، ويتسع مداه ليشمل جوانب غيبية، منها ما يتعلق باختيار الزمان المرتبط تاريخياً بسياق متصل بحركة الأنبياء والرسل، في تدبير إلهي تظهر مصاديقه في أمثلة متعددة، بعضها تمثَّل بتنصيب أنبياء الله سليمان وموسى وعيسى (عليهم السلام) أوصياءهم: آصف بن برخيا، ويوشع بن نون، وشمعون الصفا، على التوالي، كل في زمانه، في يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة ـ بغض النظر عن اختلاف تسمية الشهور باختلاف الأزمنة، ومدلول الآية الكريمة "إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض" يؤيد ذلك ـ واعتبار هذا اليوم عيداً إلهياً، تتجدد أسبابه، بتجدد محطاته، على مرِّ الأزمنة، فضلاً عما يحمله من مضامين لها صلة باستمرار دعوات الأنبياء ورسالاتهم من خلال أوصيائهم الذين اختارهم الله تعالى لهذا التكليف، وبعضها الآخر ـ أي المصاديق ـ تجلَّى بنصرة الله لأنبيائه على أعدائهم ـ في يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة أيضاً ـ كما حصل مع نبي الله إبراهيم (ع) في اليوم الذي قرر فيه أعداؤه حرقه بأمر من النمرود، ومع نبي الله موسى (ع) في اليوم الذي قرر فيه أعداؤه إظهار غلبتهم عليه بسحرهم، بأمر من فرعون، وكلا اليومين كان محطة إلهية في إظهار عظمة الأنبياء ومعجزاتهم وغلبتهم بأمر الله، فالنار التي أوقدت بقوة لتحرق النبي إبراهيم (ع) كانت برداً وسلاماً عليه، والسحرة الذين أعدوا إفكهم وألقوا حبالهم التي خُيِّل للناس أنها تسعى، خروا سجداً معلنين إيمانهم برب موسى (ع) بعد أن ألقى عصاه وتحولت إلى حية عظيمة تلقف ما يأفكون.‏

من هذا المدخل التاريخي في سياقاته المتعددة والمتصلة زمانياً بتدبير إلهي، والمتجلية في يوم واحد، هو يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، نصل الى يوم الغدير، الذي هو حلقة من حلقات هذا السياق الزماني المتكامل، الذي شكل فيه تنصيب النبي الأكرم محمد (ص) بأمر من الله، لابن عمه، الإمام علي (ع)، ولياً على الناس من بعده، وإماماً لهم، وأميراً عليهم، مع تحديد خلفاء هذا الإمام من بعده، بأنهم من صُلبه، حجة قاطعة لا لبس فيها بأن نبي الله الخاتم محمداً (ص) لم يترك أمته من بعده من دون أن يعين وصياً عليها، يدير شؤونها، ويوجهها لما فيه خيرها وصلاحها ونجاتها، وذلك وفق سُنة الله التي أجراها مع أنبيائه ورسله، وتجلت في أكثر من يوم حمل هذا التاريخ نفسه.‏

على أن الأمر المرتبط بالسياقين الآنفين المتعلقين بتنصيب أوصياء الأنبياء، وبنصرة الله لبعض أنبيائه على أعدائهم، في مثل هذا اليوم المتكرر من زمان لآخر، نجد أنه تحقق في يوم الغدير مع الإمام علي (ع) بمصداقيه معاً، حيث نصَّبه النبي محمد (ص) بأمر من الله، خليفة من بعده، ونصره الله على من أنكر تنصيبه جهرةً بأن أهلكه، وذلك حين جاء في اليوم الثالث من الغدير رجل اسمه الحارث الفهري مع اثني عشر رجلاً من أصحابه إلى رسول الله (ص) وقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه، وأمرتنا أن نصلِّي خمساً فقبلناه، وأمرتنا بالحج فقبلناه، ثم لم ترضَ بذلك حتى رفعت بضِبْعِ (ما بين الإبط الى نصف العضد) ابن عمك ففضَّلته علينا وقلت: "من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه". أهذا شيءٌ من عندك أم من الله؟ فقال (ص): والله الذي لا إله إلا هو، إنَّ هذا من الله. فولَّى الحارث يريد راحلته وهو يقول: "اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم". فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته (...) فقتله، وأنزل الله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع". فالتفت رسول الله (ص) إلى أصحابه وقال: رأيتم؟ قالوا: نعم. قال: وسمعتم؟ قالوا: نعم.‏

ولا يخفى في هذا السياق أن الكثير ممن كانوا حاضرين في يوم الغدير لم يَرُقْهم أن يكون الإمام علي (ع) خليفة لرسول الله (ص)، وما أخفوه في صدورهم أظهره الحارث الفهري ولم يُطق إخفاءه، فنال عقابه الإلهي الفوري بطلب منه، وما التفات النبي (ص) الى أصحابه، وسؤاله إياهم عما إذا كانوا قد رأوا وسمعوا، إلا لتحذيرهم من مغبة الإنكار لهذا الأمر الذي أسرَّ بعضهم إنكاره في نفسه.‏

إن نور يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، الذي اتقد ضياؤه نُصرةً لخليل الله إبراهيم (ع)، ونصراً لكليم الله موسى (ع)، شع في يوم الغدير فيضاً إلهياً سيظل سناؤه يغمر بالرحمة كل من آمن بدعوة نبي الله محمد (ص)، وولاية وصيه علي بن أبي طالب (ع)، من لدن هذا اليوم إلى يوم القيامة.‏

عدنان حمّود‏

مقالات/ العدد 1145 ـ 20 كانون الثاني/ يناير 2006‏

2006-10-30