ارشيف من : 2005-2008

عيد الغدير بين المقام ورسالة الوحدة

عيد الغدير بين المقام ورسالة الوحدة

من أيام الله ومن شعائره يوم الثامن عشر من ذي الحجة عيد الغدير، الذي وردت في فضله وعظمته روايات وأحاديث عرضت لمقامه، ولأهم الاعمال فيه لا سيما الصيام والمؤاخاة بين المؤمنين، وإن احياء هذا اليوم يجب ان يترافق مع استحضار للمضامين التي يشتمل عليها هذا العيد وللرسالة التي يحتويها والتي بها تمت الديانة والنعمة بالاسلام العزيز. أي ان هذا العيد كان مناسبة الهية اختيرت من قِبل الله تعالى للاعلان عن موعد تمامية الدين الحنيف من حيث المبادئ والمفاهيم الاساسية والتي كملت بالولاية، والتي لولاها لاعترى هذا الدين نقص في مبادئه وهويته وبناه الاساسية بما يؤدي حكماً الى تشوه يحول دون امكانية اعتباره ديناً كاملاً قابلاً للتعميم وللتسويق في أرجاء المعمورة وعلى جميع صنوف البشر، والسؤال هنا لماذا هذا الاصرار الالهي ولماذا هذا التأكيد على الصدع بالولاية في مقام اتمام رسالة الاسلام؟!‏

الجواب يكمن في طبيعة الاسلام وماهيته، فالاسلام دين ارتضاه الله خاتمة لرسالته، متضمناً للاجابات التامة عن الاحتياجات المعنوية للبشر في طريق تكاملهم وللاطار العام للاحتياجات المادية في طريق سعادتهم الدنيوية وتكاملهم المدني، وهذا الدين ولكي يؤدي الوظيفة المطلوبة منه، لا بد من ان يتحول من مقام القول الى مقام الفعل، ومن الاعتقاد الى الالتزام، ومن النظرية الى التطبيق، وكل ذلك لا يحصل عن طريق البشر وتدخلهم، لان ذلك يختص بالمنهاج المساوق للشريعة، والذي به تتنزل الشريعة الى حيّز الفعل والممارسة والسلوك، وبما ان الله سبحانه لم يرتض ان يقوم البشر بمن فيهم الانبياء العظام بالتدخل في أصل التشريع الذي يمثل بنيان الرسالة والذي هو من الله، فإنه كذلك لن يرتضي ان يتدخلوا في أصل المنهاج الذي يمثل آلية انتقال الشريعة الى مقام الاحكام والافعال والسلوكيات والذي يفترض ان يكون من الله كذلك، لان التدخل في الشريعة خطير لجهة الخوف من ادخال ما ليس في الاسلام فيه، وكذلك التدخل في المنهاج قد يؤدي الى التحويل والتعديل والتغيير في الدين، فطريقة النقل والانتقال تؤثر في المضامين كما هو معروف، وبما ان المضمون حساس فكذلك يجب ان تكون طريقة وآلية ايصاله، وبما ان الولاية تمثل المنهاج المساوق للشريعة والمنزل لها الى حيز الفعل، لاجل ذلك انحصرت عملية اختيار هذا المنهاج وهو الولاية بالله سبحانه وتعالى، ولم يُسمح لاحد بأن يحدد بنفسه هذه الولاية لانها كما ذكرت رديف الشريعة وطريقة تطبيقها، والله سبحانه وتعالى كان قد صرّح بشكل واضح في القرآن بأنه جعل لكل امة شرعة ومنهاجاً، فلم يقتصر سبحانه على انزال الشريعة وتحديدها، بل ايضاً ولحساسية المنهاج ولتأثيره في الشريعة اكد على انه هو بنفسه يحدد هذا المنهاج الذي تجسد في الاسلام بالولاية، فكان لها هذا الشأن وهذه الحساسية.‏

هذا من جهة اصل تشريع المنهاج، وتتعدى اهمية الولاية من هذا المقام الى مقام التشريع ايضاً من جهة التأويل والتفسير والبيان، فالولاية هي الخط المساوق للشريعة في طول الزمان المساهم في حفظها وفي انتقالها مع كل الزخم والاصالة لها مع الاجيال المتعاقبة، بحيث ان افتقاد الولاية في أي زمن من الازمنة يفقد الشريعة قرينها المتلبس بمهمة تأويلها بشكل لا يضر بأصالتها ونقاوتها، وفي الوقت عينه لا يجعلها قاسية جامدة عصية على التطبيق حرجة في مقام الالتزام، وان حفظ الذكر على مدى الزمان يتضمن حفظ الشريعة والمنهاج معاً، لانهما مقوما هذا الذكر، وبدون احدهما لا يمكن ان يستمر الدين وتبقى الرسالة ويهتدي الناس سواء السبيل. من هنا كان الحديث النبوي الشريف الذي يكشف عن هذه الحقيقة: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا". فالقرآن هو سفر الشريعة وأهل البيت هم سفينة الشريعة ومنهاجها الوضّاح، وبهما معاً يهتدي العالمون فلا يضلون.‏

وبما ان دعوة الشريعة الدائمة والحاسمة والتامة لاتباعها بالوحدة والتآلف والتحابب والانسجام، هذه الدعوة القائمة على وحدة هذه الشريعة ووحدانية الرب المنزل لها، فإن الدعوة التي بإزائها والتي ينطق بها المنهاج أي الولاية مفادها ايضاً الوحدة والتآلف بين المسلمين، فالولاية هي بالنيابة عن نبوة محمد (ص) تمثل الجريان الطبيعي للرسالة الصامتة في نطقها وتعبيرها عن مكنوناتها، وهي واحدة كما الرسالة واحدة كما النبوة واحدة في الاسلام، ولاجل ذلك لا يمكن ان يصدر عن لسانها الواحد سوى لغة الوحدة والتوحد، وهكذا كان الامام علي(ع) الموحد لله، الموحد للرسالة وهو الموحد للامة، والساكت عن حقه من اجلها ومن اجل حمايتها من الضياع والتشرذم، وهو بولايته في عيد الغدير يصدح بالوحدة في أرجاء المسلمين، بل المعمورة، بين بني البشر، فهو الذي نطق بالعالمية وصدع بالانسانية في خطاباته وأقواله، بل في سلوكه وآدابه، فهو من قال بأن الناس سواسية، وأنهم جميعهم ابناء آدم، وان الناس اما اخ لك في الدين واما نظير لك في الخلق، وهو الذي قبِلَ ان يترافع مع مسيحي أمام قاضٍ ولم يدّع بعصمته واسلامه وخصوصياته انه اشرف من ذلك المسيحي، وهو الذي تعلم منه المفكرون في العالم الحكمة والمنطق والعقلانية والعدالة واعتبروه نموذجاً للانسان الكامل الذي يصبو اليه كل طامح للكمال من البشر على اختلافهم وتنوعاتهم، فالولاية له والتي هي منهاج الدين، والولاية لشخصه الانسان الكامل هي دعوة تامة للوحدة بين المسلمين، بل بين البشر أجمعين.‏

د.بلال نعيم‏

مقالات/ العدد 1145 ـ 20 كانون الثاني/ يناير 2006‏

2006-10-30