ارشيف من : 2005-2008

عاشوراء في "عيد الغدير" لبولس سلامة

عاشوراء في "عيد الغدير" لبولس سلامة

يعود نظم "عيد الغدير"... للشاعر الأديب بولس سلامة، علاوة على عزم الناظم، كما يفهم من قوله في تصديره للكتاب، الى ثلاثة أسباب: أولها موهبة في سرد القصص المنظومة لفتت الأدباء، وثانيها افتقار الأدب العربي للملاحم، وثالثها اقتراح السيد عبد الحسين شرف الدين عليه نظم "يوم الغدير" بعدما كان الشيخ عبد الله العلايلي قد تمنى عليه نظم "أيام الحرب"، وقد صحّ عزم الشاعر على نظم ملحمة عنوانها: "عيد الغدير" بعد أن تزاحمت عليه الفكر وأيقظت كوامن الوجدان.‏

تتضمن هذه المنظومة سبعاً وأربعين قصيدة، عدد أبياتها ثلاثة آلاف وأربعمئة وخمسة عشر بيتاً، أولاها قصيدة بدء عنوانها "صلاة"، وآخرها قصيدة خاتمة تكمل تلك الصلاة، وبينهما قصائد تسرد قصة أهل بيت النبوة (عليهم السلام) منذ الجاهلية الى مأساة كربلاء والتطواف بالهامة الشريفة، فيمثل "يوم الغدير" فصلاً من فصول كان لكربلاء فيها ما يزيد على ثلثها.‏

أتيح لبولس سلامة من الشروط الذاتية والموضوعية ما جعله يقبل على نظم الملحمة بشغف ويجيده، ومنها: أولاً: كان شاعراً موهوباً مثقفاً مزوداً بثقافة واسعة وعميقة، ثانياً: نشأ في أحضان أبٍ شغوف بالسّير الشعبية، ما كوّن لديه ملكة خاصة بالقَصص الشعري البطولي، متميزة، كان يعبّر عنها بقوله: "الملحمة في دمي". ثالثاً كان الاخلاص دليله في كل ما كتب، فتجرد، كما يقول، من مذكرات جريح، "من كل شيء إلا من الحقيقة العارية". رابعاً، عانى من آلام الأمراض زمناً طويلاً، ولدرجة أن سُمي "أيوب القرن العشرين" والألم مطهّر للذات، ومصفّ للنفس، يتيح لمعانيه ان تشارك الناس معاناتهم، وإن كان نظم هذه الملحمة قد اقتضاه ستة أشهر، ثلاثة منها لدرس الموضوع تاريخياً، وثلاثة للنظم، تخللها من الألم الممض الذي يذهل البصيرة ما تخللها، فقد كان يختلس الوقت اختلاساً من الفترات التي يهادنه فيها الألم، فزمن نظم هذه الملحمة التي تسرد قصة أهل البيت (عليهم السلام): بطولات وانتصارات ومآسي، هو زمن هادن فيه الألم نفساً كان الإخلاص دليلها، فجسدت الحقيقة شعراً ينظم ما قاله مؤرخون عصمهم الله من فتنة سلطان غاشم.‏

يبدأ الشاعر، كما قلنا، بصلاة يرفعها الى الله سبحانه وتعالى، يطلب منه فيقول:‏

يا مليك الحياة أنزل علياً‏

عزمة منك تبعث الصخر حيا‏

في سبيل الكمال أجر يراعي‏

ملهم البث مفصلاً عربيا‏

... هات يا شعر، من عيونك واهتف‏

باسم من أشبع السباسب ريا‏

باسم زين العصور بعد نبي... باسم ليث الحجاز...‏

خير من جلل الميادين غاراً‏

وانطوى زاهداً ومات أبيّا‏

كان رب الكلام من بعد طه‏

وأخاه وصهره والوصيّا‏

بطل السيف والتقى والسجايا‏

ما رأت مثله الرماح كميّا‏

يا سماء اشهدي ويا أرض قري‏

واخشعي إنني أردت عليّا‏

وإن يكن الشاعر، في هذه الصلاة، يذكر بهوميردوس عندما بدأ الإلياذة بالطلب من الآلهة أن تلهمه الشعر، وإجادة الإشادة باسم "آخيل"، فإنه يختلف عنه في غير أمر، ذلك أن سلامة يطلب من الله سبحانه وتعالى وليس من آلهة الشعر، ويطلب أن ينزل عليه، وهو المريض، عزمة ليقوى، وأنه يسدد خطاه ويطهر فؤاده، وينير جنانه، ويجري يراعه في سبيل الكمال ليهتف ليس باسم بطل خارق تسيره الآلهة والقدر، وإنما باسم بطل السيف والتقى، من أشبع الصحارى رياً، زين العصور ورب الكلام بعد النبي (ص).‏

ان الفرق كبير بين منظورين يروي أولهما تاريخ شعب تختلط فيه الأساطير بالوقائع بالخوارق، وينشط فيه الآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال خارقو القوة، ويحكم مسار سيرهم قدر غاشم يحاول الناس الافلات من قبضته في صراع مرير يقضي فيه عليهم من دون جدوى... ما يجعل العبث مأساة كبرى، ويروي ثانيهما تاريخ شعب، لم يقل فيه الراوي غير الحق، يدور فيه صراع بين بطل هو فخر التاريخ، وبين قوى الشر، يرتضي فيه البطل القدر الالهي، ويسعى الى مصيره بوصفه طاعة ليحيي الدين، ويخط منهجاً للأجيال القادمة، يبقى نبراساً ما بقي عيش على وجه هذه الأرض، يتابعه جيل بعد جيل، ما يعني ان البطولة اتصال أجيال واستمرار نهج، وما يقوله الشاعر في هذا الصدد في خاتمة الملحمة:‏

يا اله الأكوان أشفق عليّا‏

لا تمتني غبّ العذاب شقيا‏

مصدر الحق لم أقل غير حق‏

أنت أجريته على شفتيا‏

أنت ألهمتني مديح عليّ‏

فهمي غيدق البيان عليّا‏

وتخيرت للأمير أهل البيـ‏

ت قلباً آثرته عيسويا‏

هو فخر التاريخ لا فخر شعب‏

يدعيه، ويصطفيه وليّا‏

لا تقل شيعة هواةُ علي‏

ان في كل منصف شيعيا...‏

وفي سبيل ألا يقول غير الحق عاد الشاعر الى التاريخ فدرس كما يقول المراجع التاريخية،وقطعاً للظن والشبهات قلما اعتمد مؤرخي الشيعة، بل الثقات من أهل السنّة الذين عصمهم الله من فتنة الأمويين، وفي سبيل حل اشكالية التاريخ الشعر/ الشعر التاريخ، وهي في رواية تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) أكثر تعقيداً، اذ ينبغي تحري الدقة والتثبت في الرواية، تقيد كما يقول، بالتاريخ جهد الاستطاعة، ولو تقيد أكثر لكان كاتباً بالعدل يخضع التاريخ للقوافي، ويضيف موضحاً فرقاً آخر بين ملحمته هذه وبين الملاحم الأخرى: ومع الانطلاق الشعري الذي حاولته فلقد بقيت مغلول الجناحين لا أستطيع أن أخلع على الواقعات من الفن الا بمقدار، ذلك أن الملاحم تدور على الأساطير، حيث يسبح الشاعر ولا رقيب عليه إلا ذوقه، وكتابي هذا محوره التاريخ، والتاريخ حرام على الخيال، حتى في الحوادث العادية، فكيف به عندما يستند معظمه الى الأحاديث النبوية؟ وفي سبيل بيان الأحداث التاريخية جعل للكتاب هامشاً يسهل للقراء وعلى الأخص غير المسلمين منهم تفهم الكتاب.‏

لم يبتعد الشاعر عن السرد، وهو لحمة الملحمة وسداها، الا بمقدار، وفي هذا المقدار تصدّى لبعض القضايا الفكرية، ومنها ثنائيات الخير/الشر، الحرية/ الاستعباد، الثورة/القبول، الظلم/ العدل.‏

وفي ثنايا السرد يلحظ القارئ تصويراً يتحول به السرد الى سرد تصويري أو تصوير سردي، يتألق فيه الشعر، ومن نماذج ذلك نقرأ على سبيل المثال:‏

في زواج عبد الله والد النبي (ص):‏

كان ذاك الزواج أقصر عمراً‏

من حياة الزنابق البيضاء‏

ان عمر النعماء ومضة حلم‏

فالليالي حرب على النعماء‏

في مولد الامام علي (ع):‏

صبرت فاطم على الضيم حتى‏

لهث الليل لهثة المكدود‏

واذا نجمة من الأفق خفّت‏

تطعن الليل بالشعاع الجديد‏

وتدانت من الحطيم وقرّت‏

وتدلت تدلي العنقود‏

تسكب الضوء في الأثير دقيقاً‏

فعلى الأرض وابل من سعود‏

واستفاق الحمام يسجع سجعاً‏

فتهش الأركان للتغريد‏

بسم المسجد الحرام حبوراً‏

وتنادت حجاره للنشيد‏

ذرَّ فجران ذلك اليوم: فجر‏

لنهار، وآخر للوليد‏

هالت الأم صرخة جال فيها‏

بعض شيء من همهمات الأسود‏

يهرم الدهر، وهو كالصبح باقٍ‏

كل يومٍ يأتي بفجرٍ جديد‏

وفي استشهاد الإمام علي (ع):‏

... هبّ، في الصبح، للصلاة عليّ‏

كصباح يودّع الأيّاما‏

... حاسراً سار للصلاة كوجه الحـ‏

ق، والحق لا يطيق اللثاما‏

بعد الصلاة البدء، تصوير لواقع العرب في الجاهلية، ولموقع قريش ودورها في هذا الواقع، ولسيدها عبد مناف الذي أهدى للبرية هاشماً، وهو سيد البطاح يرفد الحجيج وتسكب كفه الندى في البوادي، وسيّر رحلتي الصيف والشتاء، وقد غار منه ونافسه ابن أخيه أمية، وهو:‏

ذلك الأفعوان يقطر سماً‏

كان صلاً فصار جدّ الأراقم‏

ذكره وصمة الدهور سيبقى‏

كلما همّ بالشتيمة شاتم‏

ويتأسى الصراع بين الخير/ فخر التاريخ، وبين الشر/ القتل، ويستمر بين سلالة للخير تتصل فخراً، وبين سلالة تتصل أراقم، فيبغي حرب بن أمية على عبد المطلب بن هشام:‏

هو حرب، وهل أمية الا‏

منبع الشر، فابنه حقد ناقم‏

وتتداعى قريش للغدر كالعقبان في فجر الاسلام:‏

اذ تداعت قريش للغدر كالعقبان‏

تسطو بالبلبل الغرّيد‏

ان حظ المصباح في كل عصر‏

عصفة البحر في الليالي السود..‏

ويضرم صخر بن حرب (أبو سفيان) نار الحرب ضد الاسلام، وهو كما أسلافه وابنه وحفيده:‏

... يجمع المال من فجور البغايا‏

ومن العهر يشرب السلسبيلا‏

.. ورث الحقد عن أمية طفلاً‏

ومذ اشتد حارب التنزيلا‏

تلك هند وزوجها، فأبو‏

سفيان وغدٌ أبوةً وسليلا‏

أوليس السرحان جد يزيد‏

أورث الولد طبعه في الهيولى‏

في حنين‏

والنبي العظيم لولا علي‏

وبنو هاشم لظل وحيدا‏

شمت الداخلون في الدين كرهاً‏

وابن حرب يكاد يتلو النشيدا‏

يدخل الذئب في الحظير نفاقاً‏

وهو ما انفك في السريرة سيدا‏

زوج هند، بل أخبث الناس جداً‏

ووليداً وزوجةً وحفيدا‏

يا الهي لقد لعنت يزيداً‏

قبل أن تحمل النساء يزيدا‏

هو ذا منبع الشر يتمثل ويضرم نار الحرب ضد فخر التاريخ/ منبع الخير، واذ يتتبع الشاعر هذا الصراع وصولاً الى كربلاء، يتتبع ايضاً القضية الأساس من قضايا هذا الصراع، وهي الولاية، ومنذ حديث الدار:‏

واذا بالنبي يرسل قولاً‏

رنّ في مسمع الزمان البعيد‏

أنت مني ووارثي ووزيري‏

وعلى الحوض أنت بكر شهودي‏

مروراً بهجرة الرسول (ص) ومبيت علي (ع) في فراشه:‏

إن ينم في مضاجع الموت حباً‏

بالنبي العظيم، فالله ساهر‏

وبحديث الغدير ومفاده:‏

يا الهي من كنت مولاه حقاً‏

فعلي مولاه غير نكير‏

يا الهي والِ الذين يوالون ابن‏

عمي وانصر حليف نصيري‏

كن عدواً لمن يعاديه واخذل‏

كل نكس وخاذلٍ شرير‏

وصولاً الى ضياع حق الولي:‏

وانجلت عن ضياع حق ولي‏

كان الا عن حزنه مشغولا‏

وتوالت مبايعات ثلاث‏

طمست نور حقه المأمولا‏

وثورة شعبية أوصلت الولي الى حكم عادل، خاض حربين في الجمل وصفين ثم آلت الأمور الى كربلاء حيث أضرم الحرب يزيد، مَن لعنه الله قبل ان تحمله النساء، وهو الابن الأخير لتلك السلالة من الأراقم، ويبدو ان قدراً يحكم هذا الصراع، يسجل الشاعر حضوره عندما يتحدث عن "أهل الكساء" فيقول:‏

فيجيب النبي: هذا حسين‏

هو سبطي وخامس في الكساء‏

وعلت جبهة النبي طيوف‏

كوشاح الغمامة الدكناء‏

لمح الغيب يا لهول الليالي‏

مرعدات بالنكبة الدهياء‏

وكأن الجفون تنطق همساً‏

"يا إله السماء صن ابنائي"‏

ان هذا النهج الداعي الى وعي الواقع الرديء وتغييره ما زال يتبع وبه يخلد واضعه ومتبعه، ويتم التغيير ويبقى ملهماً للشعراء طوال الزمان، وبخاصة اولئك الذين عاشوا ايامهم متألمين كما تألم ابطال كربلاء، ومنهم الشاعر الأديب بولس سلامة الذي يقول في ختام قصيده:‏

دمك السمح، يا حسين ضياء‏

في الدياجير يلهم الشعراء‏

أي فضل لشاعر منك يعتـ‏

ام اللآلئ يصوغ منها رثاء‏

شاعر مقعد جريح مهيض‏

كل أيامه غدت كربلاء‏

عبد المجيد زراقط‏

مقالات/ العدد 1145 ـ 20 كانون الثاني/ يناير 2006‏

2006-10-30