ارشيف من : 2005-2008

الدعاية التشكيلية كأداة حرب

الدعاية التشكيلية كأداة حرب

لطالما كان الفن بشتى فروعه خادماً للسلطة عبر التاريخ، فكان الملك محور معظم المنحوتات الممجدة لفكره وحكمته وجبروته..‏

في ظل غياب وسائل الاعلام والإعلان بالمعنى المتعارف عليه حديثاً كان الفن والأدب من أهم الوسائل الإعلامية الدعائية في العصور السابقة، وهي وسائل كانت مترابطة بشكل سلس مع حياة عامة الناس، وبلوغها لم يكن يحتاج الى مشقة أو ثقافة متقدمة، فالمنحوتة أو النقش تنتشر في الأماكن العامة وتحديداً في مراكز الثقل الجماهيرية، كما أن الشعر كان يتناقل مشافهة بين الناس لجماليته الغنائية المحببة آنذاك.‏

مع الوقت تفلت أكثر الفنانين في هذا الإطار لتكون أعمالهم مرة تجريدية أو كلاسيكية إنما دون أن يغيب العنوان السياسي عن المشهد اللوني إن كان بمعناه الترويجي للوطن والثورة والبطولة أو حتى بشكله الآخر المعظم في صفات الزعيم وأيديولوجيته التي كانت مرة نازية ومرة فاشية أو صدامية..‏

الحرية تقود الشعب‏

في دراسة نُشرت قبل سنة في الملحق الأدبي لصحيفة "لوموند" الفرنسية، يروي الكاتب فيليب سولدز كيف حدث في 28 تموز 1830 أن "رفع شعب باريس خلال تظاهراته، رساماً شاباً في الثانية والثلاثين من عمره على الأكتاف"، وكتب هذا الرسام واصفاً ما حدث: "لقد عشنا ثلاثة أيام وسط البنادق وطلقات الرصاص، ذلك أن العراك كان مشتداً في كل مكان، والمتجول البسيط مثلي، كان يجازف، لا أقل ولا أكثر من غيره، بأن يصاب بطلقة تقتله، مثله في هذا مثل أولئك الأبطال المرتجلين الذين كانوا يهاجمون العدو ولا يملكون من السلاح سوى قطع حديد ربطوها بعصي المكانس". ولاحقاً في تشرين الأول التالي، كتب الرسام نفسه يقول: "أما عن الكآبة، فمن المؤكد أنها تزول بفضل العمل. ذلك أنني لتوي شرعت في تحقيق موضوع حديث، نوع من (متراس)… من الواضح أنه أعاد إليّ مزاجاً طيباً".‏

ويفيدنا سولز أن ذلك "المتراس" لم يكن سوى لوحة ستدخل التاريخ من بابه الواسع اسمها "الحرية تقود الشعب"، يعتبرها سولرز، إلى جانب لوحة "غرنيكا" لبابلو بيكاسو، أعظم نجاح حققه الرسم التاريخي على الاطلاق.‏

أما صاحب "الحرية تقود الشعب" فهو الرسام الفرنسي أوجين ديلاكرو، الذي لئن كان في ذلك الحين اشتهر بلوحاته التاريخية، لا سيما بأعماله الاستشراقية، فإن الرومانسية كانت طاغية على أعماله تلك الى درجة استغرب معها الناس أن يكون رسم موضوعاً سياسياً معاصراً في تلك اللوحة.‏

"الحرية تقود الشعب" تعتبر أول لوحة سياسية حقيقية حديثة. بحسب ما يؤكد لنا الباحث جيل نبريه، الذي يبهره، كما يبدو، كون ديلاكروا رسم بطلته وهي تسير "فوق بساط مكوّن من أجساد الموتى، جارة وراءها الجماهير الغاضبة".‏

كتب ديلاكروا الى أخيه، الجنرال في الجيش، معلقاً على رسمه لتلك اللوحة بقوله: "إذا كان لم يقيض لي أن أحارب في سبيل الوطن، فإنني على الأقل سأرسم من أجله". ويقيناً أن هذه العبارات إنما تعتبر صورة للشكل السياسي الذي سيتخذه في الرسم منذ ذلك الحين. ومع هذا، وبرغم أن ديلاكروا يقول انه "لم يقيض" له أن يحارب "في سبيل الوطن"، فإنه كان في الحرس الوطني، وعضواً محارباً.‏

وهو موجود، بهذه الصفة في اللوحة. فهو الشخص الممتشق البندقية معتمراً قبعة عالية الى يمين حاملة العلم، علماً أنه الفتى المرسوم الى يسار المرأة، ممتشقاً مسدسين في الوقت نفسه.‏

غيرنيكا‏

تعتبر غرنيكا، أشهر أعمال بيكاسو، فهذه الجدارية ـ البروباغندا التي ابتكرها رسام مالاغا وأنجزت في 1937 من أجل الاستحواذ على دعم دولي لحكومة جمهورية منهكة، قد أمضت خمسين عاماً تقريباً تجول العالم انطلاقاً من متحف الفن الحديث في نيويورك، وأمست اليوم تتخذ بعداً يجتاز الآنية، لترمز الى اسبانيا المنبعثة، وتتحول شيئاً فشيئاً أيقونة تحثّنا على مواجهة مع لا إنسانية المرء ووحشية الحرب.‏

وقع بيكاسو غرنيكا، أشدّ علامات الفن الحديث مناهضة للعنف. إلا أن النتيجة النهائية لم تكن تحديداً ما راود الرسام عندما وافق على إنجاز العمل المركزي للجناح الإسباني في معرض 1937 الدولي. انتظر بيكاسو ثلاثة أشهر أن يأتيه الوحي من دون جدوى في ظل غرقه في الكتابة واستيائه المهني وتراكم اضطرابات حياته الخاصة. وقله مما يجري في وطنه الأم الذي تتنازعه الحرب الأهلية. فبعد أن أطاح انقلاب فرانكو القوى الجمهورية الموالية للحكومة المنتخبة حديثاً. وعد "ايل كاودييو" الاسبان بالازدهار والاستقرار. في حين أنه لم يجلب سوى الموت والدمار. آملاً بالحصول على لوحة جريئة تنتقد فرانو وتصدر عن أكثر فناني اسبانيا بروزاً. قصد زملاء بيكاسو وممثلو الحكومة الديموقراطية منزله الباريسي طالبين منه رسم الجدارية. لكن طالما تجنّب الرسام دخول غمار السياسة واحتقر علناً الفن السياسي.‏

في نيسان 1937 تسبب فرانكو باستهداف المدنيين في قرية صغيرة شمال اسبانيا. إذ قصفت الطائرات الحربية التابعة للنظام الألماني حليفه، القرية موقعة 600 مدني بين ميت وجريح. يملأ أكثر من مليون متظاهر شوارع باريس للتعبير عن سخطهم، في حين تتصدر التحقيقات عن المجزرة الصحف.‏

يهرع بيكاسو ساخطاً نحو محترفه مخترقاً الشوارع المزدحمة ليضع الرسوم الأولى التمهيدية للجدارية التي تحمل اسم غرنيكا. وفي تلك اللحظة، ينتهي بحثه عن الإلهام، وسيسلم العمل الى الجناح الاسباني بعد ذلك بثلاثة أشهر.‏

الدعاية الموجهة‏

والواقع أن الفن التشكيلي بجميع فنانيه لم يتخل يوماً عن المشاركة السياسية، ومقاومة المستعمر والتشهير بالظلم والعدوان لكل ديكتاتور في الحكم، وكان لكثير من الفنانين، على المستويين العالمي أو المحلي، مواقف رائدة في دفع الظلم والتعبير عن قضية بلادهم، ومقاومة الحكام الطغاة، من خلال أساليبهم التعبيرية التي جسدها الفن التشكيلي بلغة عالمية كانت أوقع أثراً من استخدام الكلمة أو اللفظ العادي. فحينما اندلعت الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، واحتكر النظام الشيوعي في روسيا الحكم، وجعل من الفن التشكيلي منبراً دعا فيه الى المذهب الشيوعي، هجر عدد كبير من الفنانين الروس بلادهم احتجاجاً على تعميد الفن باسم الشيوعية، منهم على سبيل المثال الفنان مارك شاغال، والفنان نعوم جابو، والفنان فاسيلي كاندنيسكي.‏

وحينما سيطر هتلر على ألمانيا النازية استبعد مئة لوحة واثنتين من أعمال الفنان العالمي بول كلي، وسبعاً وخمسين لوحة للفنان فاسيلي كاندنيسكي، وأغلق مدرسة الباوهاوس عام 1933 على اعتبار ان أساتذتها اما شيوعيون أو منحلون، كما هاجر أغلبية أساتذتها الى دول أخرى.‏

وفي المكسيك، ربط الفنانون التشكيليون أنفسهم بالثورة السياسية منذ عام 1919، وظهرت لوحات حائطية كبيرة للفنانين: دييغو ريفييرا (1886 ـ 1957) وجوزي كليمنت أوروسكو (1883 ـ 1949)، ودافيد الفارو سيكيروس (1896 ـ 1974)، وكلها مرتبطة بالمفاهيم التي عبّر عنها هؤلاء الفنانون بالنسبة الى الثورة في موضوعات عن الأرض، والرأسمالية ومفاسدها، وخلاعة الطبقة البروجوازية، ونضال العمال والفلاحين، مصورة بأساليب مبسطة.‏

فن تحت السلطة‏

تحت عنوان "الفن فوق السلطة... الفن تحت السلطة" كتب محمد شرف في ملحق النهار 9/11/2003 متهماً الأنظمة التوتاليتارية، بشكل عام، بتوريط الفن، عبر دفعه نحو متاهات محددة وضاغطة لا مجال لحرية زائدة عن اللزوم ولخلق إبداعي ضمن مشروع بناء المجتمع الجديد (مع أن المنطق والواقع يشيران الى ان العكس هو الصحيح). لكن ستالين لم يعتمد المنطق الثوري حين حارب ومنع، عام 1932، التيار البنائي الطليعي الذي كان، من الناحية النظرية، مخلصاً لقضية الثورة الاشتراكية.‏

وهكذا فقد جرى التعتيم على أعمال لاريونوف ويرمالاليفا وماليفتش وكاندينسكي، ووضع لاكتيونوف وغيراسيموف وآخرون في المواجهة كي يرسموا، بتقنية أكاديمية عالية من دون شك، منجزات الثورة وصوراً ذاتية بأعداد كبيرة للقائد ستالين في أوضاع ومناسبات مختلفة (لم ير أحداً هذه الصور الذاتية بعد موت ستالين، إذ عمد الى تدميرها بأمر من خروتشوف). "الفن سلاح أقوى من البنادق والمدافع في النضال ضد الامبريالية"، صرح أحد الأساتذة السوفيات لدى زيارته كوريا الشمالية، وفي هذه العملية لا مكان للصدفة، فكل شيء مبرمج ومخطط له مسبقاً، ولكل قائد علاقته الخاصة بموضوع الفن والأدب.‏

بين عام 1933 و1945، أقيم في المانيا ما يقرب من ثلاثين معرضاً كبيراً كل شهر. واستقبل بيت الفنون الألماني، الذي افتتح في ميونيخ عام 1937، أعمالاً متخمة بالرموز لاقت ترحيب الصحافة النازية التي كتبت "على هذا البيت ان يحتضن الأعمال الجدية، الفن الذي يجري في عروقنا والذي في إمكان الناس فهمه"، اشترى هتلر مئات اللوحات: صور لفلاحين، غزلان وأبقار، حطابون، مزارعون في غمرة نشاطهم.‏

وهي علاقة، وان تعددت أشكالها، تستقي جذورها من مبدأ واحد: الحفاظ على السلطة ومحاربة من لا يسعى الى خدمتها.‏

ولم يحد موسوليني عن هذا الطريق. فالبحث الواهم عن الجمال، بحسب الدوتشي، أبعد ايطاليا عن العظمة السياسية. كانت الفنون التشكيلية تثير إزعاجه لكنه كان يدرك تماماً الدور الذي قد يلعبه الفنانون في عملية صعوده السلطوي، كما كان يدرك أن الفاشية ستفقد الكثير من وهجها في حال فشلها بإنتاج اشكال أصيلة ومبتكرة. استحوذت الواقعية الاشتراكية على اهتمام موسيليني أكثر بكثير من تيار المستقبلية الايطالية في زمن محاولته بناء "صرح جمالي قومي، عالمي ومحارب، تقليدي وحديث". وبحسب وزيره بوتي سيكون هذا التيار رافضاً للسوريالية والدادائية والفن التجريدي ولكل ما هو غير ذي نفع سياسي. وهكذا فقد نظمت مسابقات سنوية ووضعت جائزة تقديراً لـ"كل عمل فني صارم ومدروس، ملحمي، روماني وامبريالي" تجسيداً لموضوع يختاره القائد شخصياً (سماع خطاب للدوتشي على الراديو مثلاً) لكن تلك المحاولات بقيت غامضة وعاجزة عن بناء فن فاشي حقيقي.‏

لم يوفر صدام حسين، عبر وسائله الاعلامية أو بواسطة رساميه ونحاتيه، أي وسيلة لتكريس صورة القائد. فهو يمتشق سيفاً تارة ويحمل طوراً بندقية أو مسدساً، وهو مرة صلاح الدين الأيوبي ونبوخذ نصر أخرى. خلال أحد عروض اللايزر في قلب الصحراء كان وجهه يمزج مع وجه نبوخذ نصر في السماء.‏

قد يساهم الفن في اللعبة التحريضية الدعائية، وقد ينجح في الترويج للأهداف العليا الموجهة، وقد يعرف كيف يروّض ألوانه لتكون سحراً يخطف قلوب الجماهير، لكن التجربة دلت أن المعدن الحقيقي هو الذي يبقى ويستمر، أما ما هو مزيف فإن بقي فلعبرة يتعظ منها الناس.‏

عبد الحليم حمود‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1167 ـ 23/6/2006‏

2006-10-30