ارشيف من : 2005-2008
"الحرب الباردة" في الإسلام لإلغاء الرِّق:نتائج باهرة في أقلَّ من قرن
الرِّق وإلفته قبل الإسلام
عندما صدع نبي الإسلام محمد (ص) بدعوته المباركة، كان واقع الحال هو العيش وسط بيئة اجتماعية متخلفة، تتوارث الجهل والحقد والعداوة، أباً عن جد، وتنشب بين القبائل المتناحرة أشد المعارك لأتفه الأسباب، وكان الرِّق والاستعباد للغير، من سمات تلك الحقبة، بل من المسلَّمات والبديهيات المألوفة، وكان الرِّق متعدد الأسباب، متحد النتيجة، فجاء الإسلام منادياً بالمساواة في الإنسانية بين جميع بني البشر، فألغى عدداً من مصادر الرِّق (الزوجة والولد ـ عند البعض ـ والغارمون والمختطفون والمتسلط عليهم بالغلبة والقهر) بتحريم رقهم أساساً، وعمل على علاج مصادر أخرى للرِّق بروية وحكمة (أسرى الحروب والمملوكون منهم ومن غيرهم بالشراء)، حتى إنه يصح القول إن الإسلام قد خاض "حرباً باردة" لإلغاء الرِّق، ولا تخفى على ذي لب حكمة الإسلام في التعاطي بروية في علاج هذا الأمر الذي كان متفشياً بكثرة في ذلك الحين، نظراً لحساسيته المفرطة، وتعلقه بشرائح واسعة من المجتمع، حيث كان يستحيل القضاء على الرِّق بإصدار حكم يقضي بذلك مرة واحدة، نظراً للتداعيات الخطيرة التي ستنجم عن هذا الأمر.
محاربة الرِّق
لقد حارب الإسلام الرِّق تدريجاً، بأن قطع أسبابه، وألغى موجباته أولاً ـ ما عدا حالة الأسر في الحرب لتعذر إلغائها من طرف واحد، فضلاً عن جانب النِّديَّة في المعاملة ـ وشرع أبواباً لم تكن معروفة من قبل للقضاء عليه ثانياً، فجعل تحرير الرقبة أمراً واجباً حيناً، ومستحباً حيناً آخر. وقد زخر القرآن الكريم بالآيات التي فرضت على المكلف في حالات اقترافه المعصية بأن يكفر عن ذنبه بتحرير رقبة من باب أولى (في أغلب الحالات)، حتى يغفر الله له ذنبه.
إلغاء الرِّق وجوباً واستحباباً
وقد تعددت عناوين وجوب تحرير الرقبة في القرآن الكريم ـ ومنها:
ـ قتل المؤمن خطأَ: "ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة".
ـ الظهار (وهو قول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي): "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة".
ـ اليمين: "لا يؤاخذكم الله في اللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدْتُم الأيمان فكفارتُه إطعامُ عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة".
ـ الصدقات (وهي الزكاة المفروضة): "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله".
ـ الإفطار في شهر رمضان على محرم (شرب الخمر مثلاً) وكفارته ـ وفق السنة الشريفة ـ الجمع بين عتق رقبة، وصوم شهرين متتابعين، وإطعام ستين مسكيناً.
أما موارد استحباب تحرير الرقبة، فمنها:
ـ الإنفاق في سبيل الله: "وآتى المال على حبه ذوي القربى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب".
ـ الحض على الإقدام على فعل الخير في سياق ذم أهل المال الكافرين: "فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فكُّ رقبة".
كل هذا فضلاً عن الأحكام الشرعية التي وردت في هذا الجانب وتفيد بتحرير المملوك وفق شريعة الإسلام، ومنها:
المكاتبة: وهي اتفاق يتحرر بموجبه العبد بعد أدائه مبلغاً من المال يتفق عليه مع مالكه.
التدبير: وهو أن يقول المالك للعبد أنت حر بعد مماتي، فضلاً عن عدم جواز أن يمتلك الرجل أو المرأة أحد الأبوين وإن عَلَوَا (الأجداد)، والأولاد وإن نَزَلُوا (الأحفاد)، ولا امتلاك الرجل لمحارمه بالنسب من النساء، ويجري عليه حكم النسب بالرضاع أيضاً، وكذلك إذا استولد المالك جاريته فلا يجوز له بيعها، وتُعتق من سهم ولدها من الميراث، وإذا عاقب المالك عبداً بعقوبة شديدة، فإن العبد ينعتق تلقائياً، الى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي شرعها الإسلام في سبيل القضاء على الرِّق.
الحث على عتق الرِّقاب
ورد في السنة الشريفة عن نبي الرحمة محمد وآله الأطهار الكثير من الأحاديث التي تحض على عتق الرقاب، وذكرت عظيم الثواب عند الله تعالى جزاءً لهذا الأمر، ومنها: عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله علمني عملاً يدخلني الجنة قال: إن كنت أقصرتَ الخطبةَ لقد أعرضتَ المسألة، أعتِقِ النسمةَ وفُكَّ الرقبة. فقال أوَليسا واحداً؟ قال (ص): لا، عتق الرقبة أن يتفرَّد بعتقها، وفك الرقبة أن يُعِيْنَ في ثمنها...
الإمام السجاد (ع) محرِّر الأرقاء
عمل الأئمة (ع) جميعهم، على تحرير العبيد، وتذكر كتب السيرة أن الإمام علياً (ع) قد أعتق ألف مملوك من كدِّ يده. وقد بلغت مرحلة تحرير الأرقاء أوجها في زمن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، الذي تمكن من تحرير خمسين ألف مملوك، وعمل على تأديبهم بالعلم والمعرفة، وأرسلهم مبلغين الى البلدان والأمصار.
لقد أسهم الإسلام بتشريعاته السمحاء في إلغاء الكثير من مظاهر التخلف والجهل التي كانت متفشية في واقع الأمة قبل الإسلام، ومنها ظاهرة الرِّق، التي مهد للقضاء عليها بـ "حرب باردة" لا تثير في النفوس الضغائن، ولا تُفسد الواقع الاجتماعي السائد، المعتمد في جزء من حياته على هذه الظاهرة، فعمل بحكمة وروية لتحقيق هدفه بالقضاء على الرِّق، وأثمرت جهوده من خلال تشريعاته غير المسبوقة، في تحرير مئات الآلاف من الأرقاء في أقلَّ من قرن من الزمان.
عدنان حمّود
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1167 ـ 23/6/2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018