ارشيف من : 2005-2008
العلماء ودورهم الريادي في حفظ الشعائر الحسينية
اعتمد الشيعة الإمامية في كل عام مع اطلالة شهر محرم الحرام إقامة مراسم ومجالس العزاء للإمام الحسين(ع) شهيد كربلاء تعبيراً عن المشاعر والأحاسيس الكامنة في قلوبهم الرافضة بشكل دائم ومستمر لما جرى من أحداث مأساوية على أهل بيت النبوة، والتي تحمل معها الدلالة والإشارة إلى الانحرافات الفكرية والعقائدية والسياسية في الأمة الاسلامية بعد رحيل نبيّها الأكرم محمد بن عبد الله (ص) والذي تمثّل بأقسى وأفظع ممارسة تجاه الخط الرسالي النبوي في واقعة الطف المؤلمة.
والمجالس الحسينية مع هذه الرمزية والدلالة تحمل أبعاداً أخرى تتجاوز حدود الطقوس والشعائر لتجسّد البعد العقائدي في الولاء للإسلام والرسالة ونهج أهل البيت (عليهم السلام) والمتفاعل مع المشاعر والأحاسيس، لتمتزج ارادة القلب والروح مع العقل والوعي في أروع تعبير عن محبّة أهل بيت النبي (ص).
وكان للتعبير عن الرفض المطلق لهذه المأساة والجريمة الإنسانية الكبرى صور متعددة بدأت مع الامام السجاد (ع) الذي عاش تفاصيل هذه الملحمة الدامية فعمل على تخليد ذكراها في النفوس من خلال زيارته إلى قبر الحسين (ع) وحثّه وتشجيعه للأمة على ذلك، ما استدعى قيام سليمان بن صرد الخزاعي وأصحابه قبل الاعلان عن ثورتهم بزيارة الامام الحسين (ع) (زيارة العهد) حيث اجتمع مع أصحابه عند قبر الحسين (ع) وتعاهدوا على الموت أو الثأر من قتلة الامام الشهيد، واستمر التعبير عن الولاء لصاحب الثورة وأهدافها من خلال استحضار الفاجعة ولا سيما في ظروف الاسترخاء السياسي التي رافقت انحلال الدولة الأموية وظهور الدولة العباسية حيث حرص الامام الصادق(ع) في تسليط الضوء عليها والدعوة إلى الاحتفاء بها، وكذلك الحال في عصر الامام الرضا (ع) الذي لعب دوراً بارزاً (فضلاً عن دور الصادق (ع) في تشجيع الشعراء على انشاد قصائد التأبين والرثاء في جدهم الحسين (ع) وثورته الخالدة).
وفي الوقت الذي كانت السلطات السياسية المتعاقبة على الحكم في الدول الاسلامية تحاول منع اقامة هذه المجالس والمآتم الحسينية برزت الفترة التي حكم فيها البويهيون بعض أقطار الدولة الاسلامية حيث عملوا على تطوير الشعائر الحسينية لتتحول إلى شعائر رسمية تمارس بشكلٍ جماعي.
ويحدثنا التاريخ أن حكّام آل بويه ـ وهم من الشيعة ـ كان لهم أثر واضح في شيوع مراسم العزاء الحسيني وإحياء ذكرى فاجعة كربلاء، كما ذكر ذلك السيد محسن الأمين (قده) وامتد الخط الرسالي لأئمة أهل البيت (ع) على امتداد التاريخ ليعطي للإسلام ذلك الصفاء والنقاء الروحي والمعنوي، واستطاعت المجالس الحسينية أن تؤدي وظيفتها الكبرى والمقدسة في خدمة هذا النهج وتركيز روح النضال ضد الظلم والظالمين من خلال تقديم وعرض تضحيات الإمام الشهيد العظيم، وكشف النفاق والانحراف المختفي خلف شعارات أعدائه وقاتليه. ولقد امتلك أتباع أهل البيت (عليهم السلام) شعيرة من أروع الشعائر المندوبة في الاسلام بإقامتهم المآتم على الامام الحسين (ع) وأصحابه وأهل بيته، إضافة إلى النبي الأكرم (ص) والأئمة الأطهار والزهراء(ع) والأولياء والصالحين.
وهذه الشعائر والمجالس الحسينية التي تعبّر عن رؤية دينية تجاه بعض القضايا هي كأي قضية من قضايا الدين التي من المحتمل أن يدخل عليها أمور تحوّلها عن مسارها واتجاهها الصحيح فتبتعد بذلك عن الهدف الذي كانت لأجله تقام، فقد تتغلّب العاطفة فيها لتطغى على مضمون الثورة وأهدافها، أو تشوبها بعض النزعات والظواهر التي تبالغ فيها وفي مجريات أحداثها، أو غير ذلك، وهذا لا يعني أننا نقرّ بدخول مثل هذه العناصر أو تسليمنا بوجودها، ولكن الكثير ممن يقف ليترقب وجود ثغرة ينفذ منها فيستغلها ويجعل منها عنصراً هداماً لمثل هذه الشعائر المقدسة.
من هنا ومنعاً لأية محاولة من قبل أمثال هؤلاء الحاقدين والمغرضين كانت المجالس الحسينية موضع اهتمام العلماء والمراجع، وتحت مجهر نظرهم الثاقب والواعي للظروف والأحداث التي تحيط بالمجتمع الاسلامي، فانبرى العلماء بأقلامهم وتوجيهاتهم على امتداد الزمن للتصدي لكل محاولات التشويه والتزييف التي يمكن ان تطال الثورة الحسينية ومبادئها عبر استغلال المنبر الحسيني ووضع الأكاذيب حول حقائق هذه الثورة، وتشويه صورتها ممن لم يدركوا عظمتها وقداستها.
ودعوات العلماء ونداءاتهم في هذا المجال كثيرة تبين بوضوح عمق وحجم هذا الاهتمام البالغ بالمحافظة على المجالس الحسينية ومنابرها التي تضطلع بدور هام في وعي الجماهير وإرشادها، وتفرض المسؤولية على كل من يعتليها ليكون منسجماً مع ارادة الامام الحسين (ع) في اختياره للشهداء والاهداف التي من أجلها نهض وقاتل.
ومن هؤلاء العلماء والرجال الذين كان لهم الدور الأساس في تهذيب المنابر ومراقبة أداء الوعّاظ والخطباء المرجع الكبير آية الله العظمى البروجردي الذي دعا إبان مرجعيته ـ كما ينقل الشهيد مطهري ـ جميع رؤساء الهيئات الحسينية إلى اجتماع في منزله وسألهم يومها: أي المراجع تقلدون؟ فقالوا له جميعاً: نقلدك أنت: فقال لهم سماحته: إن فتواي بشأن هذه المسرحيات والتمثيليات التي تقيمونها بالشكل الذي سمعت به حرام في حرام. والعجيب ان ردهم على سماحته بأن قالوا له: مولانا نحن نقلدك طوال العام ما عدا هذه الأيام الثلاثة أو الأربعة، فنحن لسنا من مقلديك! اذ لم يعتنوا بحديثه وفتواه وفعلوا ما كانوا يريدون فعله.
ويعلّق الشهيد المطهري بالقول: إن هذا يبين بوضوح ان الهدف ليس الامام الحسين (ع) وليس الاسلام، الهدف هو المسرحية والتمثيل وما تخفيه هذه من فوائد..
والدعوة إلى هذا اللقاء من شخص بمستوى السيد البروجردي يحمل معه الاشارة الواضحة إلى مواكبة كبار العلماء والمراجع إلى المضمون الذي يلقيه الخطيب على منبر الحسين (ع) وأن ما يردد ويقال من أن أكثر هؤلاء يتحدثون عن خرافات وأكاذيب هو بحد ذاته افتراء وكذب، لأننا نلمس بوضوح تصدي العلماء الأفذاذ لكل ظاهرة أو أكذوبة أو تحريف قد يأتي به البعض من النفعيين ليلقيه على مسامع الناس في أيام عاشوراء.
حتى أن علماء الشيعة الإمامية لم يتقاعسوا لحظة في أداء هذا الواجب الشرعي والمسؤولية الكبيرة تجاه نهضة الإمام الحسين (ع) ولو كلّفهم ذلك مخالفة عواطف ومشاعر الناس، أو مقاطعة الجمهور الحسيني لهم.
فقد أصدر السيد محسن الأمين رسالة التنزيه التي ضمّنها نقداً شديداً للانحراف الذي طرأ على بعض ممارسات الشعائر الحسينية فأساء لها، ولم يقف هذا السيد الجليل عند حدود النقد، بل كان من روّاد الإصلاح، حيث طرح البديل الإصلاحي، فأصدر كتاب "المجالس الحسينية" وأعدّ فيه نماذج من مجالس العزاء يتمكّن الخطيب من الاستفادة منها في خطبه دون أن يتعرّض لمحذور شرعي.
وكان للشهيد المطهري الأثر البالغ في كسر وإزالة الحواجز بين المنبر الحسيني ومحاولة نقده حيث كتب "الملحمة الحسينية" في ثلاثة أجزاء بلغةٍ علمية انتقد فيها الظواهر السلبية، وتميّز كتابه بالجرأة في تحديد مواضع الضعف، وكشف نقاط القوة، والكل يعلم بأن هذا العالم الكبير (المطهري) هو من أصحاب الفكر والوعي والثقافة الاسلامية العالية ما يعطيه القوّة في طرح هذه المواضيع وتناولها بالنقد والتعليق، ومواقفه أو انتقاداته يمكن الوقوف عليها والإطلاع عليها بمراجعة كتاب "الملحمة الحسينية".
ومن الاعلام الذين تصدّوا لهذه القضية الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه "تجارب محمد جواد مغنية" حيث يقول: "ان العادات والتقاليد المتبعة عند العوام لا يصحّ أن تكون مرتكزاً للعقيدة، لأن الكثير منها لا يقرّه الدين الذي ينتمون اليه، وحتى لو أيّدها وساندها شيوخ يتّسمون بسمة الدين! ومنها ما يفعله بعض عوام الشيعة من لبس الأكفان وضرب الرؤوس بالسيوف في اليوم العاشر من المحرّم. إن هذه العادة المشينة بدعة في الدين والمذهب، وقد أحدثها لأنفسهم أهل الجهالة دون أن يأخذ بها إمام أو عالم كبير، كما هو الشأن في كل دين ومذهب حين توجد به عادات لا تقرّها العقيدة التي ينتسبون اليها ويسكت عنها من يسكت خوف الإهانة والضرر.
كما وينقل عن السيد هبة الدين الشهرستاني وغيره من كبار العلماء توجيهاتهم وتعليقاتهم النقدية على كل ما يمكن أن يطرأ على ساحة كربلاء من أضاليل وأكاذيب قد تسبب تشويه وتزييف حقيقة النهضة الحسينية.
ويبقى موقف سماحة المرجع القائد السيد الخامنئي (حفظه المولى) من بعض الممارسات الشعائرية الخاطئة مثل ضرب الرؤوس بالسيوف والسكاكين أو ما يسمى بالتطبير حينما قال "إنها بدعة وليست من الدين، ولا شك في أن الله لا يرضى على ذلك"، موقفاً تاريخياً ورائداً في مجال استعادة الفقيه لدوره الرسالي في عملية تصحيح أفكار ومعتقدات الأمة.
هذا فضلاً عن توجيهاته ونداءاته المتكررة إلى أرباب المنابر الحسينية والخطباء وقرّاء العزاء التي كانت تتضمن الإشارة إلى ضرورة تهذيب الشعائر والمجالس الحسينية وتقديم الصورة الحقيقية لها بعيداً عن كل الممارسات الخاطئة والأعمال التي يقوم بها البعض، ما يوجب نفور الناس من الدين، والتي لا تستند إلى أي مدرك أو دليل شرعي.
يقول سماحة السيد الخامنئي (مدّ ظله) في خطابه الذي ألقاه حول الشعائر الحسينية عام 1415 هـ عن بعض هذه الممارسات حيث تحدّث سماحته عن جملة أشياء تناولت أهداف الثورة الحسينية ومراسم العزاء، وتاريخ الشعائر فقال:
إنّ مجالس العزاء ينبغي أن تتميّز بـ"تكريس المودّة للحسين بن علي(ع) ولأهل بيت النبوة، المعرفة الدينية ووشائج الإيمان بالله سبحانه وتعالى لدى المستمع…".
ثم أضاف في حديثه ما يشير إلى الممارسة الخاطئة لبعض الشعائر التي تلحق الأذى والضرر بها وتشوّه قيمها ومعالمها فقال:
"هناك أمور تبعد البعض عن الدين حيث شوهدت ـ وللأسف ـ خلال الأعوام الثلاثة أو الأربعة الماضية أعمال تروّجها بعض الأيدي على ما يبدو، انهم يروجون في مجتمعاتنا بعض الأعمال التي تثير علامات استفهام في أذهان المشاهدين…".
ثم ينتقل في كلامه ليعلّق على مسألة "شج الرؤوس بالسيوف" وبعض المظاهر الاستعراضية السلبية، فيقول: "سمعت أنّ البعض يعلّقون الأقفال بأجسامهم في مواكب العزاء، إنه عمل خاطئ يقوم به هذا البعض. وكذلك الأمر بالنسبة لشج الرؤوس بالسيوف أي ما يصطلح عليه بالتطبير الذي يعتبر عملاً مخالفاً هو الآخر".
وفي فقرة أخرى يقول سماحته:
"وهناك بدعة غريبة ابتدعوها مؤخراً في كيفية الزيارات، أنتم تعلمون أنّ جميع أئمة الهدى (عليهم السلام) كانوا يزورون المرقد الطاهر للرسول الأكرم (ص) والمراقد المطهّرة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) في المدينة المنورة والعراق وإيران، ولكن هل سمعتم أن أحداً من الأئمة أو من العلماء كان يزحف على صدره من باب الحرم إلى الضريح أثناء الزيارة؟ فلو كان هذا العمل مستحباً أو مستحسناً لقام به علماؤنا الكبار.
وفي تحذير صريح من سماحته من القيام بمثل هذه الأعمال يطلق صرخته قائلاً:
"هذا هو التشيّع، وليس تلك الأعمال التي لا تستند إلى أي دليل، وهي أشبه شيء بالخرافات، فلماذا يروّجون هذه الأعمال، إنها من الأخطار الكبرى التي يجب على علماء الدين وحماة العقيدة أن ينتبهوا اليها.. كان عليّ ان أتطرق إلى هذا الموضوع، فإن مسؤوليتي أكثر من الآخرين… ان الامام الراحل (رض) ذلك القائد الجريء إنما كان يتصدى بمنتهى القوة ودون أية اعتبارات لكل ثغرة تشمّ منها رائحة الانحراف، ولو كانت هذه الأعمال رائجة بهذه الصورة على عهده لتصدّى لها بلا ريب".
وحتى لا يعترض أحد على عدم تصدّي العلماء لمثل هذه الممارسات والمظاهر السلبية قبل هذه الفترة الزمنية يقول سماحة القائد:
"ان علماء السلف الذين لم يتصدّوا لهذه القضية إنّما كانت يدهم مغلولة في هذا المجال، أما اليوم فإنه عصر الحكومة الاسلامية وعصر تجلي الاسلام، وينبغي أن لا نقوم بأعمال تشوّه سمعة المجتمع الاسلامي الذي يتميز بمودة أهل البيت (عليهم السلام)…".
ما ذكرناه من مواقف وآراء لبعض المراجع والعلماء أردنا من خلاله إيجاد آلية التكامل بين وظيفة الشعائر الحسينية وأهدافها ومضامينها، وبين الدور الرسالي الذي يضطلع به خطباء المنبر الحسيني لتحقيق أمرين أساسيين يحيطهما الغموض والالتباس لدى البعض وهما:
أولاً: إن المضامين الفكرية والتاريخية التي يقدّمها خطباء وعلماء المنبر الحسيني كانت ولا تزال على امتداد التاريخ موضع تأييد العلماء، وأن الوقائع والشواهد تثبت اهتمامهم بهذه القضية الهامة، وأكبر شاهد على ذلك هو انتقادهم لها عند خروجها عن حدود الدين والإسلام أو عن أهدافها المرسومة.
ثانياً: الإشارة إلى أن الواعظ والخطيب الحسيني يتمتع بمكانة جيدة وعالية بين أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وللوعظ والخطابة دور في نشر الدين والثقافة الاسلامية، ولا يمكن إنكار مدى تأثيرهما على أفكار الناس، وهذا ما يفرض المسؤولية الشرعية الكبرى على كل منهما في تقديم الفكر الصحيح وبيان أهداف النهضة الحسينية ومبادئها وغاياتها بحيث يؤدي ذلك إلى خدمة الدماء التي سالت على أرض كربلاء، وإكمال مسيرة النهضة الحسينية وإيصال صوتها إلى أسماع كل الناس، لا أن تكون المجالس الحسينية فرصة لبعض الحاقدين والانتهازيين ممن يريدون إيجاد ثغرة ينفذون منها إلى تحطيم الصورة الناصعة والبيضاء لمجالس الامام الحسين(ع).
الشيخ خليل رزق
مقالات/ العدد 1146 ـ 27/1/2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018