ارشيف من : 2005-2008
صدى الصدى
أطاحت المباني الجديدة بأشجار الحقول في هجوم كاسح على حين غرة، استعملت فيه الجرافات والمناشير الكهربائية والحفارات.
توسلت الأشجار إلى الآلات متضرعة، لكن الآلات كانت فاقدة الإحساس، فاقدة الوعي، فاقدة الرحمة.
قالت الأشجار: هل تدركين ماذا تفعلين؟ ماذا ستفعلين بالهواء إذا تلوث؟
قالت الآلات بصلف: لا جواب.. هذا شأن لا يعنيك.
قالت الأشجار: بالله عليك، كيف سيحصل المساكين على الثمار؟
قالت الآلات: سنستوردها من مكان آخر.
قالت الأشجار: ماذا ستقولين للأطفال إذا أرادوا تسلق شجرة أو قطف ثمرة؟
قالت الآلات: سنبني مدناً للملاعب والملاهي، سنأتي بالمراجيح والقطارات.
اندهشت الأشجار واجتاحها حزن شديد، وما لبثت أن أدبرت نحو اليباس.. مرت جدّتي بالحقول مرّة أخرى، فلم تر بساتين الزيتون والمشمش أو حتى تلك التوتات ذات الفاكهة البيضاء والحمراء. اتكأت الجدة على عصاها ثم ما لبثت أن تهاوت على عتبة باب بيتها العتيق كأنها حائط تداعت حجارته، وجلست تلفها مسحة ألم تطفو مع كل آهة، وهي تنظر إلى شجرة سنديان لم تصل اليها الجرّافات بعينين غائرتين.. وسرح بها الخيال في البساتين التي كانت ترتادها ذات صباح، وهي فتاة نشيطة تتسلق الأشجار وتقتحم مراتع الفراشات والأنحال..
لم يبقَ في المدينة سوى شجرة السنديان تنظر من عليائها إلى الآلات المارّة نظرة احتقار وسخرية، تترقب في اضطراب ما يحل بها.. لكن الأقدار شاءت أن تبقى مرفوعة الرأس في وسط ساحة المدينة.
كان يأوي إلى هذه الشجرة عصفور وحمامة، فهما قد اتخذا منذ زمن طويل منها أعشاشاً، وطالت بهما العشرة حتى بدوا كأنهما أخوان.
وذات صباح وجدا تحذيراً يمنعهما من النزول إلى الشارع إلا بعد رؤية رجال السير..
قال العصفور: من يجرؤ على منع الطيور من النزول في أي وقت؟ قالت الحمامة: هذا هراء.. لم تمرّ لحظات حتى سمعا صوتاً اقتحم مسمعيهما بقوة يكرر التحذير..
دبّ الخوف في المجنحين ولزما عشيهما.
وفي الأسبوع الثاني وجدا ورقة كُتب عليها: تمنع العصافير صباحاً، لأنها تشوش رادار الطائرات.
وفي الأسبوع الثالث استفاق الطائران على صرير الباب، فوجدا ورقة كُتب عليها: التغريد صباحاً يزعج أطفال المدينة.
وفي الأسبوع الرابع عاد الطائران للتغريد في صباح كانت الطبيعة تستقبل حزمة من ضوء الشمس، مكثت برهة في عناق حميم مع ربوة جرداء.
وفي الأسبوع الخامس، وبينما كان رجال البلدية ينظفون الطريق، عثر أحدهم على زقة بين ركام القمامة، وذاع الخبر، وأصبح حدث الساعة..
وفي الأسبوع السادس أصدر المحافظ قراراً بالقبض على الجاني، فانتشر العسس في كل شارع وزنقة ورواق.
وفي الأسبوع السابع جاء خبير التحليل ضاحكاً وهو يحمل في يديه شيئاً بقدر حبة العدس وقال: هذه زقّة طير، فتشوا أشجار المدينة. اندهش الناس، وقال رجل ذو لحية بيضاء: وهل تركتم أشجاراً؟
وفي الأسبوع الثامن، وفي ليلة طلقها القمر، اتجه العامل والعسس إلى شجرة السنديان، واصطحبوا العصفور والحمامة بعدما أوثقوا جناحيهما وأودعا قسم التحقيق.
وفي الأسبوع التاسع كتبت الصحافة نقلاً عن رئيس المخفر بعنوان عريض: أعدمنا الجاني وأرحنا المجتمع.
وفي الأسبوع العاشر مرّ قطّ قرب بركة صغيرة فوجد حمامة مكتوفة الجناحين، وقد تحول لونها أحمر قانياً.. حركها بمخالبه، لكن سبق السيف العذل.. أما العصفور فقد خرج مكسور الجانح وسعى بقوى خائرة كي يصل إلى الشجرة.
بقلم : فاضل كثيري
الانتقاد/قصة للأطفال ـ العدد 1150 ـ 24 شباط/ فبراير 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018