ارشيف من : 2005-2008

إعلام المقاومة الاسلامية في مواجهة العدو : الصدق كأساس في الاستراتيجيا الدعائية

إعلام المقاومة الاسلامية في مواجهة العدو : الصدق كأساس في الاستراتيجيا الدعائية

لا تجربة بلا وقت وتراكم، وفي المنظار العسكري تتحول عملية استخلاص العبر من التجارب (تحديداً تجارب الآخرين) إلى واجب وعلم يدرّس. وطبعاً يحتل علم الحرب النفسية والدعاية الحربية أعلى مراتب الاهتمام عند الدول المتحاربة. فمن التجربة الاميركية في فيتنام استفاد البريطانيون في حرب الفوكلاندز سنة 1982 ثم عاد الاميركيون بدورهم ليستفيدوا من تجربة الفوكلاندز في حرب الخليج الثانية سنة 1991، وهذا ما حاول الجيش "الاسرائيلي" قراءته أثناء الاعتداءات على لبنان في تموز 1993 (تصفية الحساب) ونيسان 1996 (عناقيد الغضب).‏

وفي المقابل كانت المقاومة الاسلامية في لبنان قد قرأت المشهد جيداً وأدرجت العنوان الاعلامي والدعائي ضمن استراتيجية حركتها، إنما مع بصمة شديدة الخصوصية تتمثل بصدق هذه الدعاية.‏

ترتيب المشهد‏

من حسن حظ الإعلام المقاوم في حزب الله أن العدو الذي يقف أمامه يعتمد في صلب دعايته على اختلاف الأكاذيب وفبركة الأحداث وتمويه الوقائع، إضافة إلى لغته التحريضية وإثارته للفتن الطائفية.‏

من هنا كان اعتماد الصدق في منظومة الإعلام والدعاية في منهجية المقاومة، وسيلة لتشكيل تناقض حاد بين الأسلوبين وقد تأصلت هذه المفارقة مع الوقت في وعي المجتمع "الاسرائيلي" كما عند وسائل الاعلام العالمية وعواصم القرار.‏

وبما أن الصدق كمادة خام يحتاج الى حُسن إدارة "وتسويق" فقد استخدم إعلام المقاومة الاسلامية، أفضل النظريات العلمية والنفسية والسيسيولوجية في إدارة أدواته من شرائط فيديو لعمليات أو اعتداءات صهيونية أو "كليبات" تحريضية أو وثائق وغنائم حرب وغيرها، كما عرفت المقاومة كيف تستغل عامل الوقت والصبر في آن، فمثلاً كانت المقاومة في حالات تسارع الى نشر صور لعملية قامت بها، وفي حالات أخرى كانت تنتظر رد الفعل "الإسرائيلي"، ثم تعود لبث الشريط الذي غالباً ما كان يفضح زيف ادعاءات تضمّنها الخطاب "الاسرائيلي"، لكن في ظروف أخرى استثنائية كان عدم بث الصور هو التكتيك اللازم كما حصل في العام 2000 أثناء عملية أسر ثلاثة جنود "اسرائيليين"، فهنا كان المقصود عدم كشف طريقة التنفيذ ولا تقديم أي معلومة عن حالة الجنود الصحية حيث بقي السرّ سنوات دون أن يكشف إلا لحظة عملية التبادل بين جثثهم وبين الأسرى اللبنانيين في سجون الاحتلال. علماً أن المقاومة نشرت صوراً فوتوغرافية للعملية في تلك الأثناء لا تحمل أي إشارات تشي بأسلوب التنفيذ ووضع الجنود.‏

وعليه نستطيع القول ان أسلوب الإعلام المقاوم انتهج آخر المفاهيم العلمية وأكثرها فاعلية بشكل يؤدي الى استقطاب الرأي العام، إنما ضمن شروط أخلاقية مبدئية تتنافى مع أسلوب وزير الدعاية النازية غوبلز الذي كان يصف الدعاية الصادقة بـ"الدعاية الطيبة"، ويرى أنه أسلوب من الدعايات لا يحتاج الى الكذب وتشويه الحقائق لأنه يلاقي قبولاً لدى الجماهير.‏

"سوبرمان"‏

قد تعرّف الدعاية على أنها "تشكيل آراء الجمهور بوسائل مختلفة، منها الاعلام الموجه وذلك لمصلحة ايديولوجية أو هدف دعائي". وهناك من يرى أن الدعاية هي "الضغط للوصول الى أهداف سياسية". وعلى هذه القواعد اشتغلت "إسرائيل" منذ احتلالها لفلسطين، حيث ركز إعلامها على تثبيط عزائم الشعوب العربية، عبر حملات دعائية هائلة الحجم والتمويل، وعرفت كيف ترسّخ فكرة الجندي "الاسرائيلي" "السوبرمان" الذي لا يقهر أو يهزم.‏

من هذه الأساليب أن الاسرائيليين قد هيمنوا على إدارة المعلومات وتدفقها، لا بل عمدوا الى رقابة صارمة وحديدية في موضوع الصراع العربي الاسرائيلي، فلم تظهر صورة قتلاهم أو حتى مراسيم الجنائز: (أسلوب معتمد في اميركا الى الآن مع استثناءات) مع أسلوب تقديم الذات كفئة أو عنصر منزّه عن الأخطاء أو السقوط والانهزام. كانت الدعاية الصهيونية تمعن في تصغير وتحقير صورة الجندي أو المواطن أو حتى الزعيم العربي.‏

حبل الكذب..‏

تقول الحكمة: "قد تخدع كل الناس بعض الوقت، وقد تخدع بعض الناس كل الوقت، لكنك لن تخدع كل الناس كل الوقت". وقد حان هذا الوقت وبدأ الصهاينة يتململون من حجم الكذب في إعلامهم وخُطب قادتهم، وكان ذلك على إيقاع انقلاب مشهدي كونته الصورة التي تحولت الى عنصر دائم لطرح الحقيقة بشكل دامغ. فكاميرا الفيديو دخلت على الخط، وتحولت عنصراً رئيسياً في كل عملية أو أي تغطية لحدث، وخداع العين يصبح صعباً حينما تحضر الوثيقة والمعطيات، كما الصمت عند قادة العدو. وكما يقول أحد علماء الاجتماع إن "حضارة القرن العشرين تؤكد من خلال وسائل الاتصال المرئية أن الترجمة الحسيّة التصويرية ذات أثر هام في الإقناع وتوجيه العقول وقولبتها".‏

وفي مقال نشرته "يديعوت أحرونوت" في 25 ـ 4 ـ 1997 اعترف الكاتب بأن هناك تقارير اعلامية كاذبة تنشرها القيادة الاسرائيلية بهدف التغطية على حقيقة الخسائر الاسرائيلية في الجنوب اللبناني، ودعا الكاتب لعدم الاستمرار في بث الكذب الاسرائيلي لأن وسائل إعلام "حزب الله" ولبنان تنشر الحقيقة كاملة، ما يؤدي لحدوث شرخ في صدقية وسائل الاعلام الإسرائيلية لدى الجنود. وأضاف الكاتب في "يديعوت أحرونوت" بأن التلفزيون والراديو الاسرائيليين بدآ منذ فترة طويلة بنقل أخبار الحرب الدائرة في الجنوب اللبناني نقلاً عن وسائل الاعلام اللبنانية لأنها أكثر صدقاً من التقارير العسكرية الاسرائيلية التي وصفها بالمدسوسة على وسائل الاعلام الاسرائيلية.‏

ويشير ذات المقال الى إنه تم رصد انخفاض في حالة الجنود الاسرائيليين النفسية بنسبة نحو 65% عقب بث أفلام رجال المقاومة اللبنانية وحزب الله الذين يطلق عليهم اسم "الاستشهاديون"، وإن الجيش الاسرائيلي بذل مجهوداً كبيراً لرفع حالة الجنود المعنوية عقب مشاهدتهم لتلك الأفلام.‏

وبتاريخ 5 ـ 1 ـ 1998 نشرت "يديعوت أحرونوت" حواراً مع العقيد كوبي ماروم قال فيه: "في أمر واحد فقط نحن أضعف هو مجال الدعاية والاعلام، وعلينا أن نحسن وضعنا في هذا المجال".‏

"بمسحناه"‏

قبلها نشرت مجلة "بمسحناه" الاسرائيلية تحقيقاً بقلم "طل زلمنوبيتس"، وقد ترجمه حلمي موسى في السفير ونشر في 21 ـ 9 ـ 1996 يقول الكاتب في هذا التحقيق: "جرت العادة في اللغة الصحافية، على القول بأن الاعلام يشبه المرآة، فمن جهة يمكن استخدامها كتعبير عن الواقع. ومن جهة أخرى يمكن ايضاً توجيهها نحو الشمس وإبهار عيون كل العالم".‏

و"حزب الله" على ما يبدو يعرف هذه المقولة. وهو يجيد استخدام الاعلام كوسيلة لتحقيق أهدافه، ولست بحاجة لأن تكون نابغة تسويق مثل "بيل غيتس" كي تعلم أن شريطاً قصيراً واحداً يمكنه أن يؤثر أضعاف المرات أكثر من عشرات المقالات الافتتاحية في صحيفة "هاآرتس".‏

ولذات التحقيق يقول العقيد "ي": "ان سياستنا الدعائية هي أقل جودة بكثير بالمقارنة معهم. انهم ينجحون جداً دعائياً ونفسياً، فهذا جزء من عقيدتهم القتالية".‏

هم يقولون، اذاً نحن ماذا نقول؟!‏

عبد الحليم حمود‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1149 ـ 17 شباط/فبراير 2006‏

2006-10-30