ارشيف من : 2005-2008

الحسين(ع) وارث الأنبياء

الحسين(ع) وارث الأنبياء

هناك مجموعتان من المواريث الحضارية يتوارثهما الناس جيلاً بعد جيل في جهتين متقابلتين: المواريث الحضارية الإلهية والمواريث الحضارية الجاهلية.‏

ومواريث الحضارة الربّانية في حياة الإنسان هي التي تلقاها الإنسان جيلاً بعد جيل من الأنبياء والمرسلين والصدّيقين، وترسّخت وتأصّلت خلال هذه المسافة الزمنية الطويلة في حياة البشر.‏

إن الإيمان بالله تعالى والتسليم المطلق لإرادته وتعبيد الناس له وتحكيم شريعته في حياة الإنسان، ورفض الطاغوت والتمرّد عليه، وكسر شوكته وسلطانه ومجابهته بالنفس والمال وفلذات الأكباد ليس ظاهرة جديدة في حياة الإنسان. ولا تخص مرحلة من مراحل حياة هذا الإنسان. وإنّما هو ميراث اجتماعي ضخم يتوارثه الإنسان جيلاً بعد جيل في تاريخه الطويل. ويتصل هذا الميراث الحضاري بأنبياء الله، ويمتد في حياة الإنسان عبر جهادهم ودعوتهم وتبليغهم له.‏

وسيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين‌(ع) وارث هذه المسيرة الحضارية الربّانية الضخمة التي تمتد عبر حياة وجهود ودعوة الأنبياء والمرسلين والشهداء والصدّيقين. وتأتي واقعة الطف لتكون ذروة هذا الجهاد التاريخي المستميت مع الجاهلية وحماتها.‏

إن‌ الحسين (ع) يوم الطف كان امتداداً واختزالاً وتأصيلاً لهذه الحركة ‌الربّانية الممتدة في عمق التاريخ.‏

وتأتي الخصائص الحسينية التي جسّدتها وقعة الطف يوم عاشوراء, تتويجاً لهذه المواريث الحضارية والأخلاقية التي ورثها الحسين(ع) من أسلافه الطاهرين ـ الأنبياء والمرسلين والشهداء والصدّيقين. فالإخلاص لله تعالى والتضحية والبذل والعطاء والشجاعة والصمود والصبر وعزّة النفس وإباء الضيم، والاستقامة في الدعوة إلى الله والتمرّد على الطاغوت، وغير ذلك من الخصائص الحسينية التي تجسّدت في معركة الطف؛ هي من أعظم تلك المواريث.‏

وهذا هو سرّ أصالة وعراقة وقوّة واقعة الطف وسرّ استمرارها وبقائها في التاريخ.‏

في المقابل فإن الجيش الأموي كان يرث في ساحة الطف خصائص الجاهلية, من الظلم والاستكبار والتهافت على حطام الدنيا والقهر والقسوة والإرهاب والاضطهاد.‏

لقد ورد هذا المفهوم (وراثة الحسين "ع" للأنبياء) في أكثر من زيارة. وكان هناك عناية خاصة لدى أهل البيت(ع) في إبراز هذا المفهوم في حياة الحسين(ع). ذلك لأن معركة الطف من أصدق مشاهد الصراع التاريخي بين الحق والباطل. ولذلك نجد في هذه المعركة أنبل القيم والمفاهيم الربّانية في طرف، وأخسّ الرذائل والأهواء الشيطانية في طرف آخر.‏

ويأتي تأكيد مفهوم الوراثة في زيارة الحسين(ع) للأهداف التالية:‏

أوّلاً ـ للتنبيه على عراقة وأصالة الجهاد الحسيني، وأنه ليس ظاهرة فردية في حياة الإمام الحسين(ع)، وإنّما هو خاصية عريقة للمسيرة الإلهية على وجه الأرض. ومن هنا فهو سرّ قوة وصلابة الموقف الحسيني في كربلاء برغم عدم التكافؤ الواضح بين معسكره ومعسكر بني أمية.‏

وثانياً ـ إذا كانت هذه الحركة بهذه الدرجة من الأصالة والعراقة والعمق والقوة والمتانة التاريخية فلا بدّ أن تنتصر على الجبهة المناوئة التي كان يتزعمها الحاكم الأموي يزيد بن معاوية. والانتصار هنا بمعناه الرسالي وانتصار خط على خط. إن‌ المعركة بين هاتين الجبهتين في كربلاء كانت معركة ميدانية وحضارية بالمعنى العميق لهذه الكلمة. والفئة التي تنتصر هي الفئة التي تستمد دوافعها من العقيدة والإيمان، وتمتد جذورها إلي اعماق التاريخ في حياة الأنبياء والمرسلين وجهادهم ودعوتهم.‏

ثالثاً ـ لا تتوقف هذه المعركة عند وقعة الطف. فهي حلقة‌ من سلسلة من المواقف الجهادية والتضحيات والبذل والعطاء في سبيل الله، تبدأ منذ أيام نوح (ع) وقبله، وتمتد إلى أن يأذن الله تعالى بالاضمحلال الكامل للجاهلية على وجه الأرض.‏

وكما ورث الحسين(ع) هذا الميراث من أبيه المرتضى(ع) وجدّه المصطفى(ص) وأسلافه الطاهرين من الأنبياء المرسلين؛ فإن أجيالا من المؤمنين‌ والمجاهدين والدعاة إلى الله تعالى سوف يرثون من الحسين هذا الميراث، ويتحركون على خطاه (ع)، طبعاً مع الفارق في درجة تمثل هذا الميراث وتجسيده على أرض الواقع.‏

الحسين وارث الأنبياء والصالحين. ونحن ورثة الحسين(ع)، وواسطة العقد بيننا وبينه هو يوم الطف. فهذا اليوم بمثابة محطّة تفعيل مستمرة في التاريخ. حيث استطاع من خلال قدرته على استقطاب عواطف الجمهور وأحاسيسهم وحبّهم,أن يحفظ‌‌ حرارة الخط وحيويته على مر الأيام.‏

والإحياء السنوي لذكرى الحسين(ع) والبكاء وإقامة مجالس العزاء، وخروج مواكب العزاء في الشوارع، ما هي إلاّ وسائل تعبير عن هذه العاطفة القوية التي يشعر بها المسلمون تجاه سيد الشهداء(ع). ولا بدّ من هذه العاطفة ولا بدّ من التعبير عن هذه العاطفة للإبقاء على ارتباط الاُمّة بكوكبة شهداء كربلاء. ولولا هذا الزخم العاطفي القوي‌ لم تبق الثورة قوية وفاعلة في وجدان الأمة إلى اليوم. ولذلك أكّد أهل البيت أهمية إقامة مجالس العزاء وتشجيع المسلمين على البكاء على مصاب الحسين(ع).‏

اسماعيل زلغوط‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1147 ـ 3 شباط/ فبراير 2006‏

2006-10-30