ارشيف من : 2005-2008

رجال المطاط لمرتضى الأمين : وجوه احتمال الحياة

رجال المطاط لمرتضى الأمين : وجوه احتمال الحياة

تتألف "رجل المطاط".. لمرتضى محمد الأمين من قسمين: أولهما مجموعة قصص قصيرة، اثنتا عشرة قصة، وثانيهما نص عنوانه: "هواجس الأب في انتظاره ـ إلى إيمان الأم"، ويتألف من خمس جولات واستراحة من الهواجس التي لا تصنف في نوع القصة أو الشعر، وإنما في "اللانوع" المتضمن تفاصيل أحداث وتأملات وخواطر وخلاصات نتائج.‏

في الهواجس أب ينتظر طفلاً فيقلق: "أول الأشياء، قلق" يقول، وفي مقابل القلق اليقين، ولكن هل من يقين؟ يسأل، كأنه يقرر: وأي جحيم هو ذلك السؤال الذي لا يملك الإجابة عنه أحد.. أو السؤال الذي تشكل إجابتنا عليه دماراً وخراباً!؟‏

هل نقول: إن هذا يفيد أن الجحيم هو السؤال الذي لا يؤتي يقيناً، وأن من الإجابات/ اليقين ما يوصل إلى دمار وخراب؟ قديماً أفادت قراءة لمأساة أديب، أن سؤال هذا الملك وإصراره على معرفة إجابة تمثل الحقيقة، أفضى إلى دمار وخراب، إلى مأساته المعرفة، فهل يفيد هذا أن المعرفة تفضي إلى الجحيم بنوعيه: الجهل، عدم الوصول إلى إجابة، والمعرفة المفضية إلى دمار وخراب؟‏

نجد الإجابة في القسم الأول من هذا الكتاب أيضاً، ما يعني أن الكاتب يصدر في قسمي كتابه عن رؤية الى العالم في قراءة لقصة: "نبات القضيب"، نتبين قلق الحفيد ورغبته في البحث عن حقيقة جده، ليكتبها في الكلمة التي ستلقى في الحفل الذي سيقام تكريماً له، إبان افتتاح قاعة سُميت باسمه.. وإذ يصل الى الحقيقة يتخلى عنها ويقرر ان يكتب كلمة عامة لا تورطه في التفاصيل، فالتفاصيل تفيد أن جدّه لم يكن ذلك الرجل العظيم الأسطورة، وإنما كان رجلاً عادياً، في المعتقل رفض ان يشرب الشاي بارداً، وأراد أن يشرب شاياً حاراً، فاشترط الشرطي ليعطيه الشاي الحار أن يمسح حذاءه، ثم أعيد ميتاً في اليوم الذي اعتقل فيه.. ويترك القاص للقارئ أن يتخيل ما حدث بين هذين الحدثين: اشتراط الشرطي وإعادة الجد ميتاً.. وبدأت "الأسطورة" منذ ذلك اليوم، فهل كان الحفيد قادراً على النيل من هذه "الأسطورة" التي كانت لا تغادر ذاكرة الأطفال وحكايات الأجداد؟‏

لم يكن قادراً وقال: قررت أن أكتب كلمة عامة "لا تورطني في التفاصيل"، وتبرز هنا ثنائية طرفها الأول العظمة ـ الظاهر، وطرفها الثاني الإنسان العادي ـ الحقيقة، والبحث يصل الى الحقيقة، لكنه يتخلى عنها ليبقى الظاهر سائداً.‏

ويتكرر هذا الموقف غير مرّة، ففي قصة "سبعة وجوه للرجل الحزين" يجلس أحد رواة هذه القصة حائراً أمام ورقته البيضاء، لا يعرف ماذا يكتب عن ذلك الرجل الذي كان الحنين اليه كفيلاً بإزالة أي عيب فيه، ولو كان كبيراً.. ويقول راوٍ آخر: "نظرنا الى ما يجري عبر غشاوات المبادئ والمثاليات، وتصرّفنا بالتالي مخلصين الى ذلك، فهل الغشاوات هذه هي ما يجعل الجحيم شيئاً آخر غير الجحيم؟ وهل الإنسان بحاجة الى هذه الغشاوات ليتمكن من العيش؟.‏

قد نجد إجابة في النص "هواجس".. في هاجس من هذه الهواجس تقرأ: "لا تغادرني صورة دون كيشوت، ولا اسمه، فكلنا حين الأمل دون كيشوت، وحروبنا اليومية مع الوهم والخيال والأحلام الخائبة، (وتلك التي نحققها منتصرين)، لا تقل غباءً عن حربه.. ولكن من ذا سيحتمل الحياة دون هذا الغباء؟‏

هل نقول: إن التلهي/ الغشاوة/ الغباء.. والأسماء كثيرة، هو ما يجعل الحياة محتملة، وإنه لا بد منه لنتمكن من العيش؟‏

من هذا المنظور تنظر هذه المجموعة من النصوص الى العالم وأناسه وأشيائه وقضاياه.. تلتقط الرؤية حدثاً بسيطاً من نماذجه إلقاء كلمة في حفل تكريم رجل يرى الناس أنه عظيم، لحظة موت رجل عادي، مشاهدة طفل لفيلم وسؤال الطفل عن معنى: تباً لك، تخيل حضور رجل أثري الى المنزل، قدوم شاب الى مدينة جديدة، شراء حقيبة من لص في أيام الحرب، كتابة قصة مقاوم، موت رجل في مقتبل العمر، وتعدد الرؤى اليه..‏

ويثير مرتضى الأمين سؤالاً هو: هل عيش "الحياة الحقيقية" يفسّر ما جاء عن "رجل المطاط"؟ وهو عنوان المجموعة.. في نهاية نص هواجس: "أما أحزاننا الشخصية، فتملك كلمة السر لإطلاق الرجل المطاطي من قمقمه، رجل من مطاط يوازينا في الحجم تماماً، جلدنا قمقمه، فإذا جاء الحزن حزننا تمطى رجل المطاط يريد الخروج، وعبثية تصير حينذاك محاولات منعه.. لأنه يخرج رغماً عنا، من عيوننا وأنوفنا وحناجرنا: دمعاً وشهقاتٍ وزفيراً وأنيناً، رجل مطاطي هو نسخة عنا، هو ظلنا الجريء الذي يعلن حزنه كاملاً فيما نحن نواري في حذر دموعنا ونخفيها عن الناس".‏

ما يجعلنا نرجح الإجابة بالإيجاب، ما نلمسه في هذا النص من تضاد بين طرفين أولهما: "ظلنا الجريء" الذي يعلن حزنه كاملاً، وثانيهما نحن نواري في حذر دموعنا ونخفيها عن الناس، الطرفان هما الإعلان الجريء والمواراة والإخفاء.‏

ويحدثنا مرتضى الأمين في مجموعته عن الزوجة المشاكسة، المتسلطة التي نلمسها فيها، وفي ما يأتي نماذج تدل على ذلك.‏

في قصة نبات القضيب تصر الأم وتخلق توتراً في المنزل (ص9)، وفي قصة "تباً لهم" تملك الزوجة مفهوماً للتربية الحديثة، وتمسك الـ"ريموت كونترول" في توتر متأهبة.. يتطلع اليها الزوج مستأذناً لينطق بالإجابة (ص18). وفي قصة "حكاية غير دامية" تتجسد صورة الزوجة أمام الزوج بسخريتها الجارحة تهزأ من كلماته وتقول له: لو أن رجلاً غيرك لعرف كيف يستفيد.. ثم تتصل به مؤنبة لأن جارتها أخبرتها عما فعله زوجها، وتطلب منه أن يُجلس من ظنّته زوج أخته في المطبخ (ص23 و24).. وفي قصة "سبعة وجوه" تقضي الزوجة على ما تبقى من كبرياء زوجها بتعليقاتها الساخرة التي كان يحسبها الأبناء خفة دم، ثم عرفوا متأخرين أنها آلة هرس متوحشة (ص53). وفي قصة "مجرد قصة" تثور الزوجة، فيحاول الزوج احتواء غضبها، لكنها تلوّح بالأوراق الملفوفة كعصا، وتزجره بنظرة واحدة ليسكت، ثم تبلغ ثورتها أوجها عندما تقول: "... ما أعرفه أن فوزي رحمه الله مات في البرية.. فما حاجتك الى هذا النفق؟".. وتبرز المفارقة الساخرة هنا حينما نعلم أن النفق استخدم في القصة بمعنى مجازي، اذ ان فوزي دخل بعد أن أصيب بالرصاصة الثانية وفي نفق طويل معتم.. في نهايته "شعلة من ضياء" (ص63ـ 66).‏

في المجموعة قضايا كثيرة جديرة بالكلام عنها، ومنها التخيل، ومثاله تخيل الرجل الأثري، والخيال العلمي الرصين، ومثاله كوكب التنك (حكاية غير كاملة)، ما يشير الى ان القاص يريد أن يكمل الحكاية، والنص هواجس.. تحتاج هذه القضايا الى مقالات أخرى قد نكتبها وقد يكتبها آخرون.. وما يمكن قوله ختاماً ان مرتضى الأمين يواصل تجاربه، وفي كل مرة يقدم جديداً.‏

الكتاب : مرتضى محمد الأمين، رجل المطاط، بيروت: دار الفارابي‏

الانتقاد/ قراءة في كتاب ـ العدد1150 ـ 24 شباط/فبراير2006‏

2006-10-30