ارشيف من : 2005-2008

ستكتبين .. يوماً.. يا .. صغيرتي

ستكتبين .. يوماً.. يا .. صغيرتي

لمن تراني أكتب هذي السطور؟؟‏

لإخوة القلم والقرطاس.. زملاء الغبار الأبيض، السبُّورة والكرّاس.. لعلّي وإياهم نعثر على ضالتنا في فهم حقيقة التعليم ورسالية المعلم العظيم.. لنفسي! وأنا أخفي بين حروف كلماتها.. أضعاف ما أبدي من عرفان.. لذلك الواقف على أعمدة الثلاث والثلاثين سنة من عمر الذاكرة.. عملاقاً.. ولو بقامة نحيلة قصيرة؟ أو لعلي أكتبها له وإن لم يقرأها.. هذا الذي لو رآني الآن لن يعرفني، والعكس يصح أيضاً، فالأيام غيّرته وغيرتني، ولم تبقِ لي من هويته سوى اسمه الأول.. إسماعيل..‏

فيا أستاذي.. اغفر لي هذا النسيان الذي يؤكد حضورك في ضميري ووجداني في يوم عيدك الواقع بعد ثلاث وثلاثين سنة من ذلك اليوم العظيم، الذي أضاءت فيه يداك القادرتان أمام عيني العاجزتين قناديل النهار.. اسمح لي سيدي في يومنا هذا أن أشعل لك في زوايا كل قلب شمعة، لن تخطئ ضياءها عين تلميذ أتعبها سهر الدرس والتحصيل، ولن تتجاوزها عين معلم أضناها أرق التحضير والتصحيح. ويا سيدي.. ان كنت حياً بقبر أو كنت شيخاً معلّقاً خريف أيامك على عكاز النهاية، دعني أؤكد لك أنه لن ينتهي من علّم الأجيال.. وأن عجزي عن تقديم عرفاني بين يدي عطائك الكبير يؤلمني.. وأن ألمي هو سبيلي الوحيد اليك بعد أن باتت السبل بيننا شبه مستحيلة.‏

دعني أكتب لك على ضفاف الوفاء والإجلال تحيتي عبر هذه السطور التي ما كنت لأستطيع اليوم ـ في عيدك ـ كتابتها، لولاك..‏

قُرع الجرس، معلناً بدء حصة "الرعب" كما كانت تسميها، وضعت بسرعة كتب الجغرافيا ودفتره على الطاولة أمامها. قدّمته لرفيقتها، طالبة رأيها: ـ أنظري .. أتراني سأنجو اليوم من عقابه القاسي؟ أم سيغدق عليّ كل نعوته المشتقة من عائلة الكسل والغباء! فتحت رفيقتها الدفتر على آخر فرض مكتوبٍ ثم صاحت: ـ ياي.. يا مسكينة..! سيضربك اليوم أكثر لأن هذا الفرض ليس من انجازك.. استعدي للعقاب العسير.‏

آلمها تعريض رفيقتها بها.. أخافها كلامها، رمى قلبها الصغير الواجف الى أعمق هاوية مجاورة لنفسها المسحوقة بسبب قسوة معلميها عليها وإهمالهم إياها، وتركها في الزاوية الأخيرة منفية كماً مهملاً لا ينفع لشيء. فانهمرت دموعها، ساخنة، غزيرة، فوق وجنتيها المتقدتين دوماً لأنها كانت دائماً أول من يعاقب، وآخر من يكافأ، هل كوفئت يوماً! لا تذكر ذلك أبداً، برغم أنها كانت تلقي أناشيد المحفوظات كاملة ودرس القراءة كانت تسمّعه عن ظهر قلب، مع أنها ما كانت تُحسن قراءته عن الكتاب المفتوح أمامها. كان عدم اتقانها الإشارة الى الكلمات بإصبعها يكشفها أمام أساتذتها الذين ما كان يعنيهم كثيراً البحث عن سبب هذه المفارقة. كان أكثر ما يعنيهم هو طبع الألم الحارق بمسطرةٍ "ظالمة" كانت تهوي على إصبعها المسكين، التائه بين السطور، بقوة الغضب "الساطع" في عيون أساتذتها، وهذا تحديداً هو الذي اختاروه دون سواه نكاية بها، مدرساً شاملاً "للمواد كافة" ما عدا اللغة الأجنبية. وكان يراها في كل هذه المواد فاشلة لا تصلح الا للإنشاد خلف قطيع ماعز في البراري "راعية" هكذا كان يناديها دائماً كلما فشلت في كتابة املاء صحيحة بعد أن تكون قد نجحت في القاء قصيدة بصوتها الخافت. وارتفع نشيجها الخائف ليطغى على صوت حركة وقوف التلاميذ وجلوسهم، بعد دخول الاستاذ الذي سمعها فانتبه لعدم وقوفها. أشعرها الصمت السائد فجأة أنه بات قريباً منها. رفعت رأسها لتراه أمامها مخاطباً إياها بصوته العميق، الرهيب، القاسي: ـ قومي، هاتي دفترك،أنت لم تكتبي فرضك، لذلك تبكين، أليس كذلك؟ لم تجبه، غادرت مقعدها، وسارت خلفه، كأنها تمشي الى حتفها، وعندما جلس على كرسيه، كان قلبها يعزف على أوتار الخوف أعلى ايقاعاته الواجفة، وكانت دموعها تغسل وجهها المحتقن بصمت: ـ ايه.. أنت لم تكتبي اليوم أيضاً، أريد أن أعرف كيف وصلت الى الصف الثالث الابتدائي؟ فكّك خوفها حروف كلماتها وهي تجيبه مقدمة اليه دفترها مفتوحاً: ـ أ... نا ... كت ... بت فر....ضي.. ها هو.. نظر حيث أشارت، تأمل الصفحة الأنيقة على غير عادة، قرأ ما فيها بسرعة، سألها بقسوة مؤكداً على اجابة لا يريد سواها: ـ هذا ليس عملك، من كتبه لك؟ هيا قولي. ركّزت على وجهه الغاضب نظراتها المتوسلة، وراحت تجاهد لتفك عقدة لسانها فما استطاعت. وما طال انتظاره عبثاً اقترب منها وسألها بهدوءٍ ساخرٍ قاسٍ: ـ لماذا يصر أهلك على تعليمك؟ ارتسم أمام نظراتها الهاربة من ثقل نظراته وجه أبيها العطوف الحاني وإصرار أمها الشجاع على تعليمها. فاستجمعت من ملامحها أطراف شجاعتها، لتجيبه بما كانت تسمعه منهما: ـ لأنني أحفظ بسرعة... سمّع لي الدرس يا أستاذ، أرجوك سمّعه لي، ستري انني حفظته كله. بدأت دون انتظار اذنه، استعملت سلاحها اليتيم، ذكرت الله وانطلقت من العنوان (الأرض والكواكب الشمسية) وتابعت بثباتٍ مشدودٍ من ضعفها اليائس (تنتمي الأرض الى مجموعة الكواكب السيّارة، التي تنتمي الى مجرّة درب التبانة..). بدأت نبرتها ترتاح قليلاً حتى أنهت تسميع الدرس كله. وسط ذهول الجميع الذي أيقظهم منه صمتها المفاجئ ليذهلها وحدها طلب الأستاذ بصوتٍ آخر جديد من رفاقها أن يصفقوا لها بقوة.. وعلى وقع أكفهم المصفقة تركت دموعها تنساب مع وجيب قلبها، لم يترك لها وقتاً لتحديد الموقف المستجد.. خاطبها بنبرةٍ خاليةٍ من عنفها المعهود وقسوتها السالفة الرعب: ـ حسناً، أنت حفظت درسك جيداً، ولكن.. الفرض.. محال أن تكتبيه أنت بكل هذا الوضوح والترتيب والخط الجميل! لا تخافي أخبريني من كتبه عنك؟ كان الخوف قد بدأ يلملم جحافله عن ساحات روحها، عندما أجابته بصوتٍ خفيضٍ لكنه واضح: أخي، إنه أخي الكبير يا استاذ، ساعدني فيه، لعلي أنجو ولو مرة من قسوة العقاب. لانت لهجته وهو يجيبها مستغرباً: ـ لِمَ لا تحاولين أن تكتبي مثله، ما الذي يمنعك أن تتعلمي منه؟‏

غرست نظراتها في الأرض وهي تخبئ بين الجفون والهدب ألمها الدفين المتعاظم : ـ أنا لا أستطيع أن أرى ما أكتب، أقسم لك أنني أجد صعوبة كبيرة في ذلك، صدقني أنني.. قاطعها مستنكراً: ـ لكنك تحفظين الدرس! أما قرأته. قبل حفظه؟ (ـ لا، إنني أيضاً، أتعب في القراءة، ولكن أخي يقرأه على مسامعي مرات عديدة فأحفظه). تضاعف ذهوله، بدا أنه يقف أمام حالٍ جديدة، مرضية. وخزته أشواك الندم التي نبتت في ضميره، طلب منها أن تكتب أمامه على اللوح، آلمه منظرها وهي تكاد تمسح بأهداب عينيها غبار الطبشور الكلسي، فدعاها للكتابة على ورقة، وبدا له المشهد أكثر إيلاماً عندما أعطاها الكتاب لتقرأ منه الدرس الذي سمّعته للتو. فغيّبت وجهها الصغير بين دفتيه، أدرك حينها ما لم يلحظه سواه، عرف أن عجزها عن اتقان القراءة والكتابة سببه عجزها الحقيقي عن رؤية الحروف الصغيرة، مزّق الندم قلبه ثم ألقاه على كرسيه واجماً. لاذ التلاميذ بالصمت الثقيل وهم يراقبونه يعصر رأسه بين كفّيه كمن يعاني صداعاً قوياً، لينقل بعد ثوانٍ عينين كئيبتين تعتذران للمرة الأولى بينها وبين دفترها. لم يكن يرى في تلك اللحظة سواها، وبلهجةٍ لا تحمل سوى الألم، طلب منها مغادرة الزاوية والجلوس في أقرب مقعدٍ من اللوح. ثم سأل الباقين بلهجةٍ لاحظت هي قبل الآخرين دفء انسانيتها الطارئ: ـ من يعرف منكم منزل أهلها؟ وعندما رفعت احداهن يدها أمسك قلماً وورقة وخطّ عليها سطوراً لم تقرأ هي حتى اللحظة مضمونها الحرفي، لكنها بعد زمنٍ قليل أدركت، أن ما كتبه في تلك الورقة التي أوصى رفيقتها بضرورة ايصالها الى أهلها في مساء ذلك اليوم، كان دافعاً قوياً لبدء رحلة علاجٍ طويل أعاد لعينيها العاجزتين القدرة على قراءة الحروف الصغيرة وكتابتها بخطٍ رقعي أصيل.‏

ثمة مشهد أخير ترفض هذه السطور أن تتركه للنسيان في أعماق الذاكرة من تلك اللحظة المنعطف.. إنه وجه أستاذها الذي انحنى على مقعدها الجديد قربه، يواسيها ويناولها منديله تجفف به دموعها التي انحدرت هذه المرة منعشة كقطرات الندى، عندما توجه اليها بملامحه الجديدة، المعتذرة، وهو يقول لها بحنو أبيها وتصميم أمها: ( ـ سامحيني يا ابنتي، كفاك دمعاً، وستكتبين، أقسم أنك ستكتبين يوماً يا صغيرتي). وها هي الصغيرة اليوم قد كبرت وكتبت لتؤكد صدق كلمته الأخيرة وتبر قسمه الواعد وتهدي اليه في يوم عيده القادم من خلف أستار الأعوام الثلاثة والثلاثين ما كتبته لتحفظه للأجيال، في هذي السطور.‏

ولاء حمود‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1153 ـ 17 آذار/مارس 2006‏

2006-10-30