ارشيف من : 2005-2008

الغوص في بحر الإعلانات:الغاية والوسيلة (1 ـ 3)

الغوص في بحر الإعلانات:الغاية والوسيلة (1 ـ 3)

الإعلانات لغة العصر، وسيلة تواصل مادي، فكري، أيديولوجي، حضاري، طبقي، سطحي، استخباري. ومن خلال تعدد أقنعة الإعلان يمكننا تخيل حجم وعدد الدهاليز التي يمكن للمتابع أن يتلقفها أو يتوه بها، فلكل مقام مقال، ولكل إعلان أسلوب ووسيلة وفكرة تتراوح بين الخطاب الزجلي والفلسفة الصامتة مروراً بوسائل الترغيب وأحياناً الترهيب.‏

هنا محاولة لالتقاط عناوين من دنيا الإعلان.‏

ابتكار الوسيلة‏

إذا أردنا تصنيف وتعريف الإعلان على انه ترويج لفكرة فسنكون قد زدنا في اتساع حلقة البيكار بحيث يختلط الإعلان بالإعلان وتتداخل المفاهيم، لذلك ارتبطت كلمة إعلان بالجانب التجاري ثم تلتها العناوين الأخرى.‏

عُرف الإعلان من خلال منابر كلاسيكية كالصحف والراديو والتلفزيون والملصق، ثم ابتدع المعلنون وسائل أكثر غرابة وابتكاراً، فكانت لوحات الإعلانات في الشوارع، وخاصة المكتظة منها، ثم تطور هذا الشكل الى لوحات إعلانية مصغرة توضع في المصاعد الكهربائية ومداخل الأبنية والمؤسسات وغرف الهاتف العمومي ومقاعد انتظار الباص.. وهناك الإعلان او الباص المترو الموضوع على أوتوبيس عمومي أو سيارات أجرة أو حتى سيارات خاصة طُليت لتكون بألوان المُنتج.. وكذلك هناك سيارات كبيرة تحمل لوحات إعلانية متحركة في ثلاث جهات، وقد استغل هذا الشكل من المرشحين للنيابة بنسبة عالية. لكن بعض الشركات فضلت أن تعلن عن نفسها من خلال أشياء ملتصقة بالمواطن، كالقلم والقداحة وعلبة الكبريت وصحن السجائر، والأمر نفسه ينطبق على الحملات الانتخابية التي اختارت القبعات والـ"تي ـ شيرت" لتكون منابرها المتجولة.‏

أما الإعلان من خلال شبكة الانترنت فهو في تطور دائم عالمياً، ويعاني أزمات في الوطن العربي حيث قلة المنتسبين وعدم اقتناع المعلنين.‏

انما المارد القادم يبدو أنه سيكون الخلوي، حيث يتمظهر كوسيط بين الإعلان "وصنميته"، وأيضاً كوسيلة ايصال إعلان من خلال شاشته.‏

في الفضاء‏

منذ بضعة أشهر أعلنت حكومة الولايات المتحدة أنها لا تريد أن تضع لوحات إعلانات في الفضاء، واقترحت ادارة الطيران الاتحادية ان تعدل قواعدها التنظيمية بما يضمن أن يكون بمقدورها فرض قانون يحظر الإعلانات المتطفلة في منطقة انعدام الجاذبية الأرضية، وقالت الإدارة: "اذا كانت الأشياء في الفلك بدرجة كبيرة فقد يراها الناس في أنحاء العالم على مدى فترات طويلة من الزمن". ولدى ادارة الطيران الاتحادية حالياً السلطة اللازمة لفرض القانون الموجود.‏

وقالت: على سبيل المثال فإن لوحات الإعلانات الضخمة التي تنشرها شركة فضاء على ارتفاع منخفض في مدار حول الأرض تبدو كبيرة في حجم القمر، وترى من دون منظار. وقد تعوق الإعلانات الكبيرة والساطعة عمل علماء الفلك.‏

وعلى الجبهة‏

لا نقصد جبهة القتال، بل جبهة اندرو فيشر المواطن الأميركي الذي تعهد بوضع شعار أو اسم منتج كوشم غير دائم للإعلان عن أفضل عرض سيتلقاه، وذلك سيكون على جبهته لمدة 30 يوماً.‏

تلقى فيشر أكثر من مئة عرض، بينها واحد بقيمة 22 ألف دولار. وقال فيشر لبرنامج "توداي" على "بي بي سي": أبيع شيئاً أملكه بالفعل وأسترده مرة أخرى بعد 30 يوماً. وحث فيشر البالغ من العمر 20 عاماً الجهات المعلنة قائلاً: "أنتهز هذه الحملة الإعلانية المبتكرة وأدخل التاريخ".‏

فيلم هندي‏

والبدائية غير محتكرة في أميركا، بل نراها في القرى والأرياف الهندية حيث لا تلفزيون في بيوت الفقراء ولا وسائل اتصال، لذلك يمكننا أن نرى في شوارع القرى الهندية رجلاً يتجمهر حوله الناس ليريهم تجربة غسل قميص قذر يرتديه أحد الموجودين، ثم رفعه من الغسالة خلال دقائق لنراه نظيفاً بفضل مسحوق الغسيل المعلن عنه، علماً بأن القميص لم يكن قذراً كما أعلن المسوّق، بل هو قميص نظيف لرجل متفق معه مسبقاً ليقف كمشاهد ثم كمتبرّع بتقديم قميصه. أيضاً في شوارع هذه القرى الهندية نشاهد رجلاً يحمل "ميكروفون" ويمشي على قدميه بين البيوت ويعلن عن فيلم سيعرض على شاشة التلفزيون من بطولة الممثل الهندي الأشهر أميتاب بيتشان، وذلك لحث الناس على الاشتراك بشبكة الستلايت المحلية.‏

نظرية روزين‏

يبدو أن هذا الأسلوب الهندي فيه الكثير من الواقعية، خاصة في ظل حوار الصناعيين والعالميين في قطاعي الإعلان والتسويق في أفضل السبل لبيع أي منتج.‏

وكان السؤال المطروح دوماً هو: هل يجب "قصف" المستهلكين بالصور والإعلانات بواسطة اللوحات الكبرى في الطرق وعبر شاشات التلفزيون أم استخدام الشعارات الجذابة، لكن إيمانويل روزين في كتابه "THE ANATOMY OF BUZZ" يرى أن على الشركات استخدام أسلوب قديم جداً أثبت فاعليته على مرّ السنين، أي الترويج الشفهي من شخص إلى آخر الذي يدفع المستهلكين إلى تداول المعلومات المتعلقة بالمنتج المراد تسويقه. وانطلاقاً من تجربته الشخصية يؤكد روزين أن حسنات هذا الأسلوب كثيرة، وأنه قادر على ترويج السلعة في أوساط لا تستطيع أن تبلغها الإعلانات في الصحف أو التلفزيونات والإذاعات.‏

روح رياضية‏

ارتباط الرياضة بأشكالها بالإعلان يتدرج ليصل الذروة مع تسمية المعدات والملابس الرياضية بما فيها الأحذية بأسماء كبار اللاعبين من دون أن يشعر اللاعب بأي حرج لوضع اسمه على الحذاء، ما دام المقابل المادي يتخطى مئات الآلاف ليصل الى ملايين الدولارات.‏

وهناك شكل آخر يسمونه الرعاية، حيث تقوم مؤسسة أو شركة رياضية أو تلفزيونية أو حتى سلعة كالشوكولا، بتمويل فريق كرة قدم أو كرة سلة على ان يكون اسم المنتج على ثياب اللاعب من ناحيتي البطن والظهر، ولم تشذ ألعاب القوى عن الركب. أما سباقات السيارات والدراجات النارية والهوائية والخيل أو السفن الشراعية على أنواعها ومسافاتها، فقد طغى فيها الإعلان على المتسابق نفسه الذي يتحول إلى مجرد رقم مطلي بألوان السلعة وأحرفها.‏

لكنْ للرعاية أشكال "خلاقة"، اذ تصبح أسماء دورات رئيسية كالدوري اللبناني لكرة القدم باسم المنتج، ويصل الأمر حينها إلى البرنامج الرياضي التلفزيوني نفسه، حيث نشاهد ديكوره مصمما باسم وألوان الجهة التجارية الراعية.. والطريف أنه مع كل هدف في مباراة كرة القدم نشاهد السلعة وقد أطلت برأسها على زاوية الشاشة. لكن الطامة الكبرى تكون حين تنتهي المباراة من دون تسجيل أي أهداف!‏

الشاشة الملكة‏

برغم التنوع في الخامات والغرابة في الأسلوب والأماكن يبقى التلفزيون المحور الذي تدور باقي الأشكال في فلكه، فأمامه يصرف البشر أكثر ساعات عمرهم، ومن خلاله تتبدل أو تتغير أو تتطور أو تنحدر أفكارهم ومعتقداتهم وصولاً إلى لغتهم اليومية وآرائهم السياسية وحتى الأخلاقية.‏

لذلك تبقى شاشة التلفزيون هي الملكة التي تتحالف مع الإعلانات بشكل جدلي، فيعزو كل من الطرفين سبب وجود الآخر لنفسه.. فهذا يقول لا شاشة بلا أموال الإعلان، وتلك تقول لا انتشار للإعلان دون فضل الشاشة.. لكن المتلقي في وادٍ آخر، وهو غير معني بأي نقاش لأنه الحلقة التي لا تعرف إلا أن تدفع.. أما الطرفان الأولان فيتنافسان على نسبة ما يقبضانه.‏

التلفزيون كمربّع ليس سلّة واحدة، بل تتفاوت علاقة برامجه بنوع ونسبة وحجم الإعلانات. فحسب دراسة أجرتها شركة "ايبسوس ـ ستان" ونشرتها مجلة "آراب آد" (الإعلانات العربية) الفصلية المتخصصة، فإن إعلانات المرطبات تتركز في برامج المنوعات (33% من مجموع إعلانات المرطبات) والبرامج الاجتماعية والثقافية (16%).. وللشوكولا حضور ضمن عروض الأفلام (21%)، والمسلسلات (16%)، والبرامج الاجتماعية والثقافية (16%). فيما نشاهد إعلانات الشامبو أيضاً ضمن فترة بث المسلسلات (26%). أما إعلانات المصارف فتتركز في الأخبار والبرامج السياسية (63%)، وتذوب في البرامج الاجتماعية والثقافية (10%). وهنا نلاحظ أن المعلن اختار الشريحة التي يخاطبها ضمن دراسات واستنتاجات "منطقية"، فهنا المستهدف هم الشباب، وهنا سيدات البيوت، وهنا الرجل الكهل.‏

علماً بأن هذه الدراسة قد أُجريت على 25 محطة فضائية عربية غير مشفرة، ما بين كانون الثاني وآذار 2005.‏

بناءً على ما ذكر يتضح جلياً ان الإعلانات "صمام أمان" للكثير من وسائل الإعلام والإعلان، وأن الإعلانات لغة تتجاوز الحاضر نحو المستقبل، والأرجح أن تتطور جينة الإعلان لتبلغ مراحل خارج حسابات المنطق وحتى الأخلاق، ما دام في الأمر أموال ستنبع من جيوب المتواطئين لا الضحايا.‏

عبد الحليم حمود‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1153 ـ 17 آذار/مارس 2006‏

2006-10-30