ارشيف من : 2005-2008

المقاومة بين اللغة والمصطلح : المقاومة ـ الميليشيا ـ المرتزقة

المقاومة بين اللغة والمصطلح : المقاومة ـ الميليشيا ـ المرتزقة

في إطار اللعب على المصطلحات ونظرا لتقاربها واشتراكها في بعض المساقات، فإن بعض الزعماء والإعلاميين لعبوا على هذا التقارب بين مصطلحات المقاومة والميليشيا والمرتزقة، وتاهوا في خانة التحليل والتأويل حتى أصبحت هذه المفاهيم في خانة واحدة، وأضحى تعتيم الحقيقة اللغوية من جهة والحقيقة الفعلية للمصطلحات من جهة أخرى همّ الذين يصطادون في الماء العكر من على المنابر الإذاعية والقنوات المرئية والصحف والجرائد، وبالتالي فقد مثّلت تصريحاتهم تعكيراً لمزاج جمهور كبير من المتابعين لأحوال السياسة في لبنان وربما في العالم العربي أيضا. ومما لا شك فيه أن مثيري التشويش الاصطلاحي هم بالدرجة الأولى يتبعون ما تشابه من ذلك، وهم يريدون خلطا متعمدا كما هو الشأن عند بعض تجار السياسة والمواقف، وكل الصيادين في الماء العكر على الرغم من ثقافتهم اللغوية. والعمل من هذا النوع على غاية من الخطورة لما ينطوي عليه من مقاصد تمثل الآخر العدائي في الداخل، وتفتح له أبوابا كانت إلى وقت قريب موصدة. ومن هذا المنطلق كان لا بد من تناول هذه المسألة لغة واصطلاحا.‏

فالميليشيا في إطارها اللغوي لا تخرج عن كونها مجرد مجموعة من المقاتلين تختلف تنظيميا وقصديا عن المقاومة. ومن هنا يتجاوز مفهومها الحقل المعجمي ليوضح لبّ المسألة الاصطلاحية. فأمّا من حيث التركيب فالميليشيا كلمة تطلق على المجوعات المقاتلة داخل الوطن الواحد، وعادة ما تزدهر في الحروب الأهلية كونها عملية تجميع لمقاتلين لا يختلفون عن قطّاع الطرق من حيث عدم الانضباط والرسالية، والميليشيا باختصار قد يكون فيها تشابه جوهري مع المقاومة إلا أنها تختلف عنها باعتبارها حركة فئوية آنية يفتقد عملها إلى مشروعية الدولة، بل وغالبا ما تفتقد هي الأخرى إلى القيم والمثل التي تضبط قيم الحرب المعروفة عند المسلمين. أما المرتزقة فهم مجموعة من المقاتلين المأجورين الذين يتخذون من القتال مهنة يعتاشون عليها. ومن هذا المنحى غالبا ما يرتهن المرتزق لمأجوره، فيصبح مجرد آلة يستعملها كيف يشاء، وتنتهي مهمته بانتهاء الوظيفة التي يكلف بها. والمرتزق بعكس المجاهد في هذا الجانب، لا يملك إرادته في توجه رسالي وخدمة الأغراض النبيلة التي تندرج في سلّم الأخلاق، بل ينضوي تحت لواء شريعة الغاب، لأنّ الارتزاق في دلالته العقلية ارتهان. والمرتزقة في هذا الجانب ليس لهم سبيل سوى القتل والتوحش فيه كونه ارتهاناً لمأمورية المستأجر.‏

بهذا الفعل تسقط مفاهيم أخرى كالمقاومة لأنها في الأساس حال طبيعية لرد عدوان قائم، خلافا للارتزاق كونه عملا تجاريا يعادل أجرا ماديا معينا. وبهذا التوضيح تصبح المقاربة ـ بين المرتزقة والميليشيا والمقاومة ـ عملا شريرا تنتجه فوضى الحواس على ذاكرة الهذيان في الوطن أو الشارع المخطوف. ولا يتم التركيز إلا على ما يجمع بينها من امتلاك الآلة المستعملة (السلاح)، لكن الفارق من حيث الأداء واللغة والواقع مختلف، إذ لكل توصيف ومقصد واتجاه.‏

لكنّ الرسالية لا توسم إلا لخندق المقاومة، وبرغم الوضوح بين المصطلحات الثلاثة، فإن البعض يعمد الخلط بينها، ويسعى لإطلاق التسميات في غير موضعها، ما يجعله اختزالا لمشروع مشبوه أقله إيجاد فتنة تعيد الشعب إلى التناحر، هذا إذا لم تكن التركيبة طائفية، فما بالك بلبنان حيث يرتدي كل زعيم فيه عباءة الطائفة ويتقنع بشعارات أيام الحرب نفسها وبخيمة الجاهلية البغيضة.‏

وقد يستغرب القارئ لماذا التركيز على هذه المفاهيم، ولماذا يدخل الساسة في متاهات اللغة. والجواب على ذلك يندرج في سياق توضيح خطورة اللغة التي سيستعملها بعض رافضي الوفاق الإنساني الذين يحملون مشروع فتنة وتعطيل أكثر من مشروع إعمار واستقرار. إننا نعيش حرب المصطلحات والتسميات والخلاف على هذه المزرعة أو تلك برغم اعتراف بانتمائها للبنان.‏

لكن المسألة أبعد من مصطلح، إنها إعادة إنتاج أزمة الغرض منها إثارة المجتمع المدني وشحنه طائفيا وإيديولوجيا ومذهبيا ووطنيا بأسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، يريدونها فتنة ابتغاء خلط الأوراق، لأن جنون العظمة وجنون الكرسي وجنون الكلام وحب البروز أفسد عليهم رشدهم، فصاروا لا يعيشون إلا في بهرج المصطلحات المتشابهة لتسلط عليهم الأضواء وتشد إليهم الرحال كما شدّ ألفونس رحاله إلى بلاد الأندلس. وما أشبه البارحة باليوم، ممالك تتصارع هنا وهناك، وتستنصر أعداءها على بعضها البعض، وزعماء يستنصرون قوى الشر والطاغوت.‏

فكيف اجتمع الأمس باليوم؟ وكيف اجتمع الصديق والعدو والعهد والخيانة والوفاء والغدر؟‏

إلا إن لكل مفردة معنى ودلالة فأما المعنى فقد اتضح وأما الدلالة فطريق اللغة في إدراك القصد يعلمها أولو الألباب، ويتموقعون في خنادقها. وأما الذين في قلوبهم ريب فلا شفاء لهم من عهر ألسنة اللغط وأمواج الكلام العائم على سطح التضليل.‏

فهل تستغرب يا لسان العرب هذا الخلط بين زاغ عن الحق وزاغ عن اللغة، وقد زاغ من قبل وتاه في جهالته الجهلاء.‏

الفاضل كثيري‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1152 ـ 10 آذار/مارس 2006‏

2006-10-30