ارشيف من : 2005-2008
الغوص في بحر الاعلانات :صحف "التابلويد" المجانية (2 - 3)
في البداية التبس رد الفعل عند الناس حينما بدأوا يحملون صحيفة تحت إبطهم دون أن يدفعوا ثمنها، حتى ولو كانت مليئة بالاعلانات من ألفها إلى يائها، لكن مادة هذه الصحيفة لم تكن غريبة عن المواطن، ففيها شاهد وقرأ اعلانات أكثر تواضعاً وقرباً من جيبه، فهذا إعلان عن أثاث مقسّط وتلك ساعة هدية مع كل ساعة، وهنا مطلوب عامل أو مندوب، وهناك فرصة سفر إلى الخليج، وبين هذا وذاك قدمت الصحف المجانية إعلانات قد تغوي بصورها إن كانت لأطعمة أو أثاث منازل أو شقق للبيع، وطبعاً لا يخلو الأمر من استغلال لجسد المرأة حتى لو كانت السلعة عن ماركة اطارات. للصحف الاعلانية المجانية وأيضاً الفنية النسائية صولات وجولات هنا إطلالة عليها.
الطبعة الاولى
سنة 1995 ظهرت الصحف المجانية في الدول الإسكندنافية، النرويج وأسوج، وفي ستوكهولم أطلت يومية "مترو"، وكانت التسمية مستلّة من مكان توزيعها، وهو داخل المترو الأسوجي، وبين ليلة وضحاها تعدت نسب توزيع "مترو" اليومي الستمئة ألف نسخة، أما عن مضمون الصحيفة فكان قليل الرسم ميّالاً إلى الخفة والرشاقة في إيصال الخبر مع بعض المقالات والكلمات المتقاطعة، واستعراضها لبرامج التلفزيون والراديو، وطبعاً هناك الطبق الرئيسي وهو الإعلانات الكبرى المصورة والإعلانات المبوبة.
بعد سنتين من ظهورها وفي أشد مراحل أزمة الصحافة أخذت "مترو" تجني أرباحاً من عائداتها الإعلانية توازي أربعة ملايين دولار سنوياً، وهو ما شجع القيمين عليها لبحث فكرة نقل التجربة إلى عواصم أوروبية أخرى. دخلت "مترو" إلى بريطانيا وخفضت من قراء صحف التابلويد بنسبة 4% وفي ايطاليا 20% وسويسرا 14%، وهي بالغالب ما تخطف قراء الصحف الشعبية والفضائية.
بما أن طباعة الصحف في فرنسا أعلى كلفة من غيرها في باقي العواصم الأوروبية فقد قررت الصحف المجانية أن تطبع خارج فرنسا كاللوكسنبورغ على أن تشحن ليلاً إلى الأسواق الباريسية، لكن الأمر لم يكن بالسهولة المتوقعة حيث أثار هذا التصرف نقابة عمال المطابع الذين جابهوا الأمر ببعض العنف المباشر خاصة في فترة التوزيع الأولى.
الوطن العربي
بعد أن انتقلت الفكرة إلى معظم البلدان كانت العاصمة بيروت على موعد مع صحيفة اسبوعية إعلانية مجانية، وما إن ذاع صيتها حتى رحنا نشاهد يومياً إعلانات عن صحف إعلانات، فأطلت واحدة هنا بحجم أصغر وواحدة هناك بشكل أضعف، ومنها ما هو ملوّن أو أسود وأبيض، وما هي إلا سنوات قليلة حتى تبين أن الأمر فيه رأسمال بملايين الدولارات لذلك توقفت معظم هذه المغامرات، ولم تبق في الساحة سوى أسبوعيتين تتنافسان بسلام، عدا عن صحف قليلة تصدر شهرياً دون أن تحتل مكانة منافسة في الساحة. يذكر أن حجم "التابلويد" هو المعتمد ضمن الموجود حالياً. وتبين أن احدى هاتين الصحيفتين غير مقطوعة من شجرة، بل هي أساس ولها فروع في أكثر من دولة عربية لذلك رأينا وتحت ذات العنوان أو عنوان مشابه اطلالات لشقيقات هذه الصحيفة في سوريا ومصر والكويت وغيرها..
"التابلويد"
بعد أن كان الإعلان عنصراً قليل المساحة وضعيف السطوة في عالم الصحافة، أطل الوجه الآخر له ليكتشف المشهد جلياً وبشكله المفزع على الكثير من الأصعدة ضمن عالم الصحافة والإعلام، لدرجة أن يصل الأمر إلى الشكل والحجم، فبعد أن عرفت الصحافة اليومية في العام بحجمها الكبير المعروف بـ"البرودشيت"، وهو من اختراع البريطانيين في القرن الثامن عشر تهرباً من الضريبة المفروضة على كل صفحة منشورة وليس على حجمها، بعد هذا الشكل أتى من يطالب ويدعو إلى حجم آخر أصغر وأسهل على القارئ، وهو ما يعرف بحجم "التابلويد"، والأمر يتعدى الارتجال والتجربة لدرجة الدراسة العلمية الدقيقة، وهو ما قامت برعايته صحيفة "التايمز" حيث أعطت الخلاصة أن أفضل القراءات المريحة للإنسان هي القراءة الأفقية أي الانطلاق من اليسار إلى اليمين، أو من اليمين إلى اليسار، وذلك بعكس القراءة العمودية، وما تقدمه من صعود ونزول يزعج العين، وهنا تطل صحيفة التابلويد لتكون المخرج "العلمي" للإشكالية. لكن حتى الآن للمعلنين في الغرب رأي آخر، فهم يفضلون المساحات الكبرى لبسط إعلاناتهم عليها بما يضمن السطوة والهيبة، وهو شكل غير مضمون ضمن التابلويد، لذلك الأمر لا يزال محل نقاش عند كبار المعلنين.
يقول بعض الخبراء ان المستقبل سيكون حليفاً للتابلويد لأن الحجم يخفف من تكلفة الورق ويسهل على القارئ التحكم بالصحيفة بسهولة، لكن للأمر عوائق أخرى أهمها عادة القارئ في القراءة، لذلك ينصح المعنيون بتدريب القارئ على الحجم الصغير عبر طبع طبعتين من ذات العدد واحدة في حجم "البرودشيت" وثانية في حجم "التابلويد"، علماً أنها فكرة اعتمدتها التايمز لمدة سنة.
لكن يبدو النقاش بعيداً جداً عن صحافة العالم العربي حيث تقل المغامرة، وإذا حصلت فهي ليست كما يشتهي أنصار "التابلويد"، حيث صدرت منذ سنوات صحيفة "الكفاح العربي" في بيروت بحجم "التابلويد"، لكن وبعد بضعة سنوات عادت إلى "البرودشيت" قبل أن تصبح مجلة اسبوعية.
تدخّل المعلن
خلف قشرة الصحافة هناك الكثير من الأسرار التي قد تخفى عن العاملين فيها منذ سنوات، حيث لا يتوقع البعض أن تصاغ الأخبار والأسرار وصورة الغلاف والسياسة العامة للمجلة أو الجريدة بإيحاء من قبل المعلنين، حتى أن هناك مقالات وتحقيقات تكتب بطلب من المعلن الذي غالباً ما ينشد الإثارة والتشويق والعري، وطبعاً الترويج لسلعته بشكل مباشر عبر الإعلان عنها، وغير مباشر عبر التشهير بالسلع المنافسة، علماً أن هناك مجلات قد توقفت عن الصدور بعد قرار من المعلن الذي خاب ظنه بالنتيجة، وكي لا يبدو الأمر تهويماً ما على القارئ سوى التوجه إلى المجلات الاسبوعية الشهرية خاصة الفنية والنسائية منها ليرى حجم الاعلانات التي تتمحور حول الماكياج والكريمات والأزياء وغيرها، وإذا ما طالع القارئ بين خمس وعشر أعداد سينتبه إلى وجوه تكرار في كل الاعداد بسبب أو بغير سبب، وهنا نكتشف أن الإعلان تخطى السلعة أو المنتج ليصل إلى الأفراد ونشاطاتهم وزياراتهم مع بعض النفخ في التوصيف، فتضاف صفة العالمية إلى مصمم أزياء، والعبقرية إلى الأداء التمثيلي، والجماهيرية إلى حجم المحبين.
الجميع يعلم أن عالم الإعلام يحكمه أباطرة وعالم الإعلان يحكمه أباطرة فمتى اتفق الإثنان على "الصغار" أن يحفظوا رؤوسهم، ذلك أن توليفة ما قد تنشأ وتقدم "خدمات" اعلامية بمال زهيد أو مجاني.
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1154 ـ 24 آذار/مارس 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018