ارشيف من : 2005-2008

عبدالله بن عباس: عين الحسين (ع) على "المدينة"

عبدالله بن عباس: عين الحسين (ع)  على "المدينة"

هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم الرسول (ص).‏

أسلم أبوه قبل واقعة بدر، وأوكل إليه النبي(ص) مهمة حماية المستضعفين من المسلمين في مكة من عدوان خصومهم المشركين. وكان بمنزلة العين لرسول الله (ص) على قريش يوافيه أخبارهم. شهد مع النبي فتح مكة كما شهد بعد ذلك بقية مشاهده كلها. وكان من جملة الهاشميين الذين انضموا إلى علي (ع) في حياة النبي (ص) وبعد وفاته.‏

وأمه لبابة بنت الحارث الهلالية، إحدى مفاخر النساء في بني هلال. سارعت إلى الاسلام، فكانت أول امرأة عربية تسلم بعد خديجة. وشاركت زوجها حماية بعض الضعفاء من المسلمين. أختها ميمونه تزوجت من رسول الله(ص).‏

ولد عبد الله بن عباس قبل هجرة الرسول(ص) بثلاث سنوات في شِعَب أبي طالب حيث حصرت قريش بني هاشم. وقد حُمل إلى رسول الله (ص) فحنكه بريقه.‏

وكان له عند موت النبي ثلاث عشرة سنة. قضى عشراً منها في مكة والسنوات الثلاث الأخيرة في المدينة قريبا من ابن عمه رسول الله (ص). وكان منجذبا إلى النبي(ص) أشد الانجذاب؛ يقتفي آثاره ويتتبع خطواته، ويقلده في كل ما يعمل، حتى أنه كان يتشبه به في لبسته للإزار. فإذا سئل عن أسباب ذلك قال: رأيت رسول الله(ص) يأتزر هذه الإزرة. وكان النبي(ص) يرعاه ويكثر من تعاهده بالمعرفة. وقد دعا له في مناسبات متفرقة فقال: "اللهم آته الحكمة". وقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".‏

وعلى الرغم من حداثة سنه فإنه لم يُضع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهد مجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول. وبعد ذهاب الرسول إلى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه. وكان إلى عنايته بجمع المعرفة، يعنى بفحصها وفحص مصادرها.. يقول عن نفسه: "إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".‏

وبذلك توافرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم. يقول فيه سعد بن أبي وقاص: "ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، ثم لا يجاوز قوله، وإن عنده لأهل بدر من المهاجرين والانصار". وكان يلقبه بفتى الكهول. كما لُقّب بحبر الأمة لاتساع معرفته، واستنارة عقله.‏

وقد صُنّف بعد الإمام علي(ع) بلا فصل في رتبة التفسير فقال: "فأما صدر المفسرين فعلي بن أبي طالب، ويتلوه عبدالله بن عباس"، وكان يُعرف بترجمان القرآن‏

وهو في جوده وسخائه ليفيض على الناس من ماله، بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه. ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون: "ما رأينا بيتاً أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس".‏

وهو بعد، عابد قانت أوّاب. يقوم الليل، ويصوم من الأيام كل اثنين وخميس ويقول: أحب أن يرتفع عملي وأنا صائم. وكان كثير البكاء كلما صلى، وكلما قرأ القرآن. فإذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد وذكر الموت والبعث، كما الآية التالية: "وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد" علا نشيجه ونحيبه.‏

عبدالله بن العبّاس بن عبد المطلّب بن هاشم كان مؤمناً بإمامة أئمة أهل البيت الإثني عشر(ع) من بعد رسول الله(ص)، عارفاً بحقّهم، موقناً بأنّ نصرهم والجهاد تحت رايتهم فرض كفرض الصلاة والزكاة، وكانت سيرته مع الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين عليهم السلام كاشفة عن هذا الإيمان وهذا اليقين وهذه المعرفة، وكان لا يتردد في إظهار اعتزازه وافتخاره بما أنعم الله عليه به من موالاتهم وحبّهم والانقياد لهم والامتثال لأمرهم، ومن جميل ما يُروى في ذلك أنّ مُدرك بن زياد اعترض على ابن عباس حين رآه ذات يوم وقد أمسك للحسن والحسين(ع) بالركاب وسوّى عليهما: "قائلاً: أنت أسنُّ منهما تُمسك لهما بالركاب!؟ فقال: يا لُكع، وتدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله(ص)، أوليس ممّا أنعم الله به عليَّ أن أمسك لهما وأسوّي عليهما!؟".‏

وقد ورد عن الصادق(ع) ان الامام الباقر كان يحبّه حباً شديداً.‏

شهد حروب الإمام علي (ع) الثلاث: البصرة وصفين والنهروان، وأبلى فيها بلاءً حسناً. وحسبه أن يكون موضع إعجاب أمير المؤمنين (ع) وهو من هو في شجاعته النادرة. فعن الإمام السجاد عن أبيه(ع) قال: نظر أبي إلى ابن عباس يوم الجمل يمشي بين الصفين، فقال: أقرّ الله عين من له ابن عم مثل هذا.‏

ابن عباس وعاشوراء‏

كان ابن عباس (رض) يقول: "ما كُنا نشكُّ، أنّ الحسين بن عليّ يُقتل بالطفّ!". وفي حوار بينهما، وذلك بعد رفض الامام بيعة يزيد، خاطبه بقوله: إنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقبل الله إحداهما دون الأخرى.‏

وها هو يقول ليزيد بن معاوية نفسه في قصر أبيه: "مهلاً يزيد، فواللّه ما صفت القلوب لكم منذ تكدّرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبّة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم، لا رضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمسِ من أفعالكم، وإن تَدُلِ الأيّام نستقضِ ما سُدَّ عنّا، ونسترجع ما ابتُزَّ منّا، كيلاً بكيل، ووزناً بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليّاً لنا، ووكيلاً على المعتدين علينا". إذن لِمَ لم يلتحق ابن عباس (رض) بالركب الحسيني ليفوز بشرف نصرة سيد المظلومين(ع) وبشرف الشهادة بين يديه، وهو من أمضى عمره الشريف بالجهاد ونصرة الحق!؟‏

إن سبب ذلك يعود إلى أنه كان في ذلك الوقت ـ كما عبد الله بن جعفر زوج العقيلة زينب(ع) ـ مكفوف البصر، الأمر الذي أعجزه عن القدرة على الالتحاق بالإمام(ع) والجهاد بين يديه. وهذا ما يفسر عدم دعوة الإمام(ع) إيّاه للانضمام إليه، ثم الترخيص له في العودة الى المدينة ليرصد له أخبار السلطة الأموية والناس فيها حيث يقول(ع): "يا بن عباس، إنك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنتَ مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يخفَ عليَّ شيءٌ من أخبارك".‏

توفي سنة 67 هـجرية بعد أن فقد بصره ودفن بالبقيع. وقد تولى أمره والصلاة عليه ابن عمه محمد ابن الحنفية. وقال في تأبينه: "اليوم مات ربّاني هذه الأمة".‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1154 ـ 24 آذار/مارس 2006‏

2006-10-30