ارشيف من : 2005-2008
ثقافتنا الإسلامية بين الواقع والمرتجى
إذا كان للثقافة تعريفات متعددة، ومتفاوتة بين مصدر وآخر، إلا أن حدَّها المشترك الجامع بين كل التعريفات هو "المعرفة" المستفادة من تعابير "الإحاطة"، أو "التمكن"، أو "الإدراك"، الى ما هنالك من عبارات تؤدي الغرض المطلوب، الذي يتمحور في آخر المطاف حول هذه الكلمة المفهومية، وهي "المعرفة".
وقد اقتصر البعض ممن عرَّفوا الثقافة على شمولها العلوم والآداب والفنون، إلا أن بعضاً آخر أضاف اليها الإحاطة بشؤون الحياة والناس، ولا يخفى الكم الهائل من المصاديق الذي يندرج في إطار هذا التعريف.
ومع تفاوت التعريفات لمفهوم الثقافة، فإن مصاديقها التطبيقية تتفاوت أيضاً بين بلد وآخر، وعرق وآخر، وكذلك بين أتباع دين وآخر... وهكذا.
وإذا طرقنا باب "ثقافتنا الإسلامية" لنقف على حقيقتها نجد أنها تمتاز عن غيرها من الثقافات (الوافدة) لناحية انتمائها الديني ـ وليس العرقي ـ وهي ثقافة غنية قد أحاطت بكل ما يحتاج اليه الإنسان في هذه الحياة، وقد أثْرت مجتمعاتنا بمعارفها الواسعة وعلومها السامية وآدابها الراقية.
وإذا تمعنا في حالنا التي نحن عليها اليوم نجد أن ثقافتنا ـ في تطبيقها ـ باتت مرتهنة في الكثير من تجلياتها لثقافة الغير، وبات التقليد للثقافات الوافدة مسيطراً علينا، في كل التفاصيل، صغيرها وكبيرها، من اللباس الى المأكل والمشرب، وحتى طريقة الجلوس والنوم... الخ، وكلها أمور مستنسخة من الثقافات الوافدة، غير المعتمدة في تكوُّنها على أي من التشريعات الدينية.
وإذا كان البعض يؤمن بتلاقح الحضارات والثقافات، وبأن يأخذ بعضها من بعض فلا ضير في ذلك، ولكن المشكلة تكمن في التقليد الأعمى للغير، من دون دراسة الآثار السلبية التي يمكن أن تنجم عن مثل هذا التقليد، وأولها وأهمها اضمحلال ثقافتنا وتلاشيها تدريجياً من واقعنا وحياتنا، فنغدو حينذاك مجتمعاً بلا ثقافة، مجتمعاً يجتر ثقافة الغير التي لا تناسبه، فيقع في محظور "الضياع الثقافي"، الذي لا مهرب منه، ولا حياد عنه عاجلاً أو آجلاً، إلا بالعودة إلا الرشد والصواب، من خلال اعتناق "الثقافة الحقيقية" التي جاء بها ديننا، وهي "ثقافتنا الإسلامية"، والتمسك بكل مفهوم من مفاهيمها، وتطبيقه ـ قدر المستطاع ـ لنؤوب بذلك الى ما فررنا عنه طوعاً أو كرهاً.
ويأتي في طليعة الإرث الثقافي ـ الديني والحضاري ـ الذي جاء به الإسلام، القرآن الكريم، الذي زخرت سوره وآياته بالمفاهيم الثقافية التربوية التوجيهية الواضحة، التي لا تحتاج الى كبير شرح وتوضيح لنفقهها (سورة لقمان مثالاً)، وهي تعني الفرد والمجتمع على حد سواء، (آية النهي عن الغيبة مثالاً).
ويلي القرآن الكريم في ترتيب الإرث الثقافي كتاب "نهج البلاغة" للإمام علي (ع)، الذي ضم الخطب والأوامر والكتب والرسائل والحكم والمواعظ التي صدرت عن الإمام الأول للمسلمين، علي بن أبي طالب (ع)، الذي وُصف كلامه (ع) بأنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، وجمعها الشريف الرضي في كتاب "نهج البلاغة"، الغني بمضمونه التوجيهي الفريد الذي شكل مرجعاً كبيراً في اقتباس مفاهيم العدالة الاجتماعية، وحسبُنا وصف الأديب جورج جرداق في معرض كلامه عن أدب الإمام علي (ع) في نهج البلاغة بأنه "كان أدباً في خدمة الإنسان والحضارة".
والكتاب الذي يشكل المصداق الثالث للإرث الثقافي الإسلامي الذي ينبغي العودة اليه، هو كتاب "الصحيفة السجادية" للإمام علي بن الحسين، زين العابدين (ع)، وهو كتاب يشتمل على الأدعية التي أملاها الإمام زين العابدين (ع) على ولده الإمام محمد الباقر (ع)، وفيها من الآداب السلوكية والأخلاقية ما يرقى بالإنسان في علاقته مع بارئه، من جهة، ومع مجتمعه من جهة أخرى، الى مستوى متقدم، ونجد في توصيف الشهيد السيد محمد باقر الصدر في أحد التقديمات لطبعاتها ما يعبر عن القيمة الحقيقية لتلك الصحيفة حيث يقول: "... وهكذا نعرف أن الصحيفة السجادية تعبر عن عمل اجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام، إضافة الى كونها تراثاً ربانياً فريداً يظل على مرِّ الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب، وتظل الإنسانية بحاجة الى هذا التراث المحمدي العَلَوي، وتزداد حاجةً كلما ازداد الشيطان إغراءً والدنيا فتنة".
ويضاف الى تلك المصادر الأساسية في الاقتباس الثقافي الموجِّه للفرد وللمجتمع، كامل التراث الفكري ـ بكل أصنافه ـ الذي ورد في المأثور عن نبي الهدى (ص) وآله الأطهار، وصحبه الأخيار، رضوان الله عليهم، هذا التراث الذي لم يدع صغيرة ولا كبيرة، إلا وذكر لها حكمها، وبيَّن موقعها في التشريع الإلهي وأحكامه التكليفية، التي اندرجت تحت عناوين الواجب والمُحرَّم، والمستحب والمكروه والمباح، مع ذكر كيفية التصرف مع كل حالة بحذافيرها، ولم يُغفل منها أمراً حتى ولو كان حقيراً ما دام أن الناس عرضة له، فبين لهم ـ على سبيل المثال ـ كيف يأكلون ويشربون، وينامون، ويتكلمون... الى ما هنالك من أدق التفاصيل التي تعرض للإنسان في حياته اليومية.
إذا كان دين الإسلام الذي جاء به نبي الهدى محمد (ص) هو خاتم الأديان، فإن ثقافة الإسلام التي أساسها القرآن، هي خاتمة الثقافات بلا منازع.
عدنان حمّود
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1154 ـ 24 آذار/مارس 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018